الوثائق السرية، وعددها 391.832 وثيقة، التي جرى تسريبها من البنتاغون من خلال موقع ويكليكس الذائع الصيت حول الحرب على العراق لا تشكل فقط أساساً لملاحقة قضائية جنائية كبرى لكل مرتكبي الجرائم والمجازر ضد الشعب العراقي، عسكريين ام سياسيين، امريكيين او غير امريكيين، بل تشكل أيضاً أساساً صالحاً لمحاكمة سياسية لأنظمة أمر قادتها بارتكاب مثل هذه الفظاعات، او سمحوا بها، وتستروا عليها لسنوات، وكذبوا على شعوبهم الذين يفترض انهم وصلوا الى مواقعهم بفضلهم وتعهدوا بمصارحتهم ومكاشفتهم في كل ما يقدمون عليه. واذا كان مجرمو النازية قد حوكموا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في محكمة نورمبرغ الجنائية الخاصة على ما ارتكبوه من جرائم ومجازر وحملات ابادة جماعية وتطهير عرقي وصولاً الى اكاذيب «غوبلز» الشهيرة، فان مجرمي النازية الجديدة يستحقون محاكمتين على غرار نورمبرغ، اولاهما جنائية وثانيتهما سياسية. لقد جاءت هذه الوثائق لتؤكد ما كان يعرفه العراقيون جميعاً، لانهم بالاساس «ضحاياها»، كما قال الصحافي روبرت فيسك قبل ايام في مقالته التي تصدرت صحيفة «الاندبندنت» البريطانية، فانها قد كشفت كذلك ان ما تعرض له العراق على مدى سنوات كان جريمة العصر بكل المقاييس، وان ما تعرض له العالم كله، ولا سيمًا دول «العالم الحر» وشعوبه، بسبب العراق كان «خدعة العصر» أو «اكذوبته» بكل المعايير ايضاً. ولقد كشف صديق العراق والعرب جورج غالاواي في مقالته الاسبوعية في ال «دايلي ريكورد» عن حجم تلك الخدعة بقوله انه خدع في حياته مرتين اولاهما حين صدق ادعاءات دول «الغرب المتحضر» الكبرى حول امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل ولم يصدق نفي الرئيس العراقي الراحل صدام حسين له في أوت 2002، ليكتشف ان ما كانوا يسمونه «بالدكتاتور» كان اصدق بكثير من دول وحكومات تدعي الديمقراطية في «العالم الحر»، كما خدع مرة ثانية حين كان يلتقي أصدقاءه العراقيين والعرب ويبلغونه بالانتهاكات التي يرتكبها المحتلون وادواتهم فيجيبهم قائلاً «اننا في مجتمعات ديمقراطية، ولا يمكن لامور كهذه ان تبقى سرية لوقت طويل فلا بد ان يقوم ضابط او سياسي او صحافي بفضحها، فاذا به يكتشف اليوم كم كان هو نفسه ساذجاً في ظنه هذا». اما ارقام ضحابا الاحتلال فقد بلغت حسب الوثائق اكثر من (109) آلاف ضحية ما بين 2004-2009 ( وهي ارقام لا تتضمن ضحايا الحرب نفسها عام 2003، وما لحقها من قتل جماعي طيلة الاشهر التسعة الاولى للاحتلال، ولا ضحايا الحرب الاولى 1991، وضحايا الحصار المستمر منذ عام 1990)، وهي ارقام تسمح لنا بالقول ان اكثر من مليون ونصف مليون عراقي قد أٌستشهد على يد المحتل طيلة العقدين الماضيين، مخلفين وراءهم مليون ارملة، وخمسة ملايين يتيم، وملايين المشردين والمهجرين داخل العراق وخارجه. و«مفارقة العصر» هنا، كما «جريمة العصر» و«خدعة العصر»، هي ان كل هذه الجرائم والمجازر، وهي كما هو معروف جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، قد تمت في عصر «النظام الدولي الجديد» القائم على ادعاءات «الديمقراطية» وصون «حقوق الانسان»، وفي ظل سقوط «نخب» عربية ودولية عدة في فخ الترويج لهذا «النظام» وقيمه ومفاهيمه. قد تنجح سطوة المتنفذين في واشنطن ولندن وغيرهما في ان تبعد كأس المحاكمة الجنائية عن المتورطين في هذه المجازر، وكأس المساءلة السياسية عن المسؤولين عن هذه الجرائم، لكنها حتماً لن تنجح في غسل عارٍ لحق بتلك الدول والمجتمعات اذا لم تقم فيها قوى حية وحرة تدفع الى محاكمة الاشخاص ومحاسبة نظام سمح بارتكاب هذا القدر من الجرائم والاكاذيب في آن. المحاكمة والمحاسبة هنا ليستا ضروريتين للاقتصاص لشعب العراق الأبي الجريح فقط، ومعه الشعب الفلسطيني واللبناني والافغاني فحسب، بل هما ضروريتان أيضاً لانقاذ المجتمعات الغربية نفسها، خصوصاً الامريكية منها والبريطانية، من مؤسسات وادارات باتت مرتعاً للاجرام والفساد معاً، للكذب والتضليل في آن، وكلها مساوئ ستدفع ثمنها تلك المجتمعات نفسها بعد ان اكتوت بنارها مجتمعاتنا العربية والاسلامية. والمحاكمة والمحاسبة كذلك ضروريتان للتدقيق في الدور الصهيوني في هذه المسيرة الاجرامية والارهابية الطويلة ضد العراق وعلى مدى عقدين من الزمن، فالبصمات الصهيونية واضحة وجليّة في العديد من المجازر والمتفجرات والفتن، وصولاً الى الاستخدام المفرط لسلاح الجو في قصف افراد وعائلات ومنازل آمنة حيث تضاعفت هذه الهجمات الجوية مع تولي الجنرال باتريوس القيادة في العراق ثم في افغانستان التي تضاعفت فيها، وخلال عام واحد، اعمال القصف الجوي اكثر من 172%. والمحاكمة والمحاسبة هما أيضاً ضروريتان لكي يعاد النظر في كل ما شهده العراق من اجراءات وتشكيلات ومحاكمات مناقضة للاتفاقيات الدولية الراعية للبلدان الخاضعة للاحتلال، بل لكي يعاد الاعتبار الى المقاومة العراقية الباسلة التي تهرّب، ومازال، كثيرون من الاعتراف بها ودعمها واحتضانها، خصوصاً بعد ان تبين للعالم كله انها لم تكن مقاومة مشروعة لاحتلال بغيض فحسب، بل كانت أيضاً مقاومة لابشع فاشية عنصرية ارهابية تستولدها حضارة الجشع الربوي الاستهلاكي والنهب الريعي لموارد العالم. لقد قلت مرة في ربيع عام 2005، وخلال تظاهرة شبابية حاشدة امام مقر السفارة الامريكية في الضاحية الشرقية للعاصمة اللبنانية، ومخاطباً الشعب الامريكي من خلالها، «نحن هنا لنحرركم من طغيان ادارتكم كما لنحرر ارادتنا، لندافع عنكم كما ندافع عن انفسنا، عن قيمكم كما قيمنا، لنحمي مواردكم كما مواردنا، لنصون حرياتكم الشخصية والعامة كما حريتنا، لندافع عن حياة ابنائكم الذين يموتون في العراق وافغانستان كما عن ابنائنا»، وها هي بعض وثائق البنتاغون تكشف اننا، كما شعوب امريكا وبريطانيا، كنا ضحايا مشتركين لارهاب واحد، وطغيان واحد، رغم ان تلك الوثائق لم تكشف حجم الضحايا بين جنود الاحتلال وضباطه ومرتزقته، كما لم تكشف حجم الجرحى والمشوهين. فهل سنرى يوماً يمثلٌ فيه مرتكبو هذه الجرائم، لا سيما الكبار منهم، امام محكمة نورمبرغ جديدة محكمة سياسية، ومحكمة جنائية... لكي نحمي العالم من نازية عنصرية اجرامية تتجدد كل مرحلة في قارة ما، وتحت شعارات ما.