لا يملك المرء، دفع ألم يعتصر القلب وهو يرى اخوته المسلمين في أفغانستان ينزفون طيلة عقود بأيديهم وأيدي أعدائهم، ولا منع ابتسامة مرة وهو يلمس عمى القلوب لدى جبابرة قرؤوا التاريخ ولم يعوا دروسه ولا اعتبروا بما كان مع آخرين من قبلهم، موقع افغانستان الجغرافي في القلب من آسيا الوسطى جعلها مسرحا لتطاحن قوى من حولها، فهي على الحدود مع طاجيكستان وأوزباكتسان وتركمانستان (جمهوريات ثلاث كانت ضمن الاتحاد السوفياتي حتى اندثاره)، وهي جارة لإيران وباكستان ولها حدود بطول حوالي مائتي كلم في طرف لسان يمتد الى الصين. تأثرت بفارس حقبا يعود بعضها الى ثلاثة آلاف سنة وتعرضت لهجمة قصيرة من الاسكندر الأكبر (320 ق.م) وهو الذي أسس مدينة (أريون/ هيرات الحالية) و«الاسكندرية ارخوتن/ قندهار الحالية) وقدمت إليها الديانة البوذية من الهند وكشمير في القرنين الرابع والخامس وخلفت آثارا كان آخرها التمثالين اللذين فجّرتهما طالبان عام 2000. ووصلها الاسلام في القرن السابع فأسر قلوب أهلها وازدهرت الأرض الأفغانية تحت ظل الخلافتين الأموية والعباسية. وزحف عليها المغول في القرن الثالث عشر فأسلموا ومن بعدهم جاء الأتراك العثمانيون. هذا الموقع والتاريخ أفرز تركيبة بشرية تعددت فيها الأعراق والقوميات. أكبرها الباشتون (50٪) وهم من أصول فارسية لهم لغتهم وعاصمتها هي قندهار يأتي بعدهم الطاجيك (25٪) وظهرهم الى طاجيكستان المجاورة وأصلهم من الفرس أيضا وموطنهم وادي بانشير.. ثم الأوزبك (4٪) وهم من أصل تركي وظهرهم الى أوزباكستان خلف الحدود.. ثم الهزارة (3٪) وهم من أصول مغولية تترية وينتشون في الوسط وهم شيعة مع حوالي عشر الطاجيك فيما البقية في معظمهم سنة حنفيون مع وجود مذاهب وديانات أخرى مثل الاسماعيلية والسيخ. وظلت السلطة تقليديا بأيدي الأغلبية الباشتونية وخاصة مع قيام حكومات العصر الحديث، ففي منتصف القرن الثامن عشر استقل (أحمد شاه) عن دولة فارس وأقام مملكة شملت أفغانستان والبنجاب الحالية وكشمير، لكن ما كاد العقد الثاني من القرن التاسع عشر يشارف على نهايته حتى اقتتلت القبائل الأفغانية عشرين سنة فاستحوذ السيخ على البنجاب وأصبحت الأرض الأفغانية فريسة صراع بين روسيا القيصرية المتمددة الى وسط آسيا وبريطانيا المكلكلة على شبه القارة الهندية. ودخلت القوات الأنقليزية كابول ودمرتها عام 1849، ثم عادت إليها بعد أربعة عقود فهزمت شرّ هزيمة.. وعاودت الزحف عليها مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى لكن ذلك انتهى باستقلال أفغانستان عام 1919 خلال تلك الفترة كان الاقتتال في الداخل والحروب مع الخارج ولم ينج ملك من الاغتيال أو النفي أو مواجهة انتفاضات مسلحة.. فقد عزل الانقليز (يعقوب خان) واغتيل (حبيب اللّه) عشية الاستقلال، وبعده بأربع عشرة سنة فقط اغتيل الملك نادر خان عام 1939 ليخلفه محمد ظاهر شاه الذي امتد حكمه أربعين سنة قبل أن يطيح به (وهو في ايطاليا) ابن عمه ورئيس حكومته الجنرال محمد داوود خان (1973) لتدخل أفغانستان حقبة دموية جديدة. أعلن محمد داوود قيام الجمهورية ونظام شيوعي لكن الحزب الشيوعي انشطر الى اثنين (خلق أو الشعب) بزعامة نور محمد طراقي و(برشام أو الراية) بزعامة بابراك كارمل فيما انتشرت المعارضة المسلحة في مختلف أرجاء البلاد رافضة للإلحاد الشيوعي وتعمق الولاء للقبيلة والطائفة على حساب الولاء للوطن. وفي أفريل 1978 حدث انقلاب دموي قتل فيه محمد داوود وأغلب أفراد عائلته وعين طراقي (من حزب برشام) رئيسا للمجلس الثوري والحكومة وكارمال وحفيظ الله أمين (من حزب خلق) نائبين لرئيس الوزراء.. ثم أسندت رئاسة الحكومة لحفيظ الله وأزيح كارمال فلجأ الى موسكو.. وطلبت كابول الدعم من الاتحاد السوفياتي فأرسل طلائع قوات، لكن سرعان ما قتل طراقي على أيدي أنصار حفيظ الله أمين الذي قتل بدوره بعد أشهر قليلة عندها أعيد كارمال من موسكو وعلى خطاه حصل الاحتلال السوفياتي عام 1979.. وبدأت حقبة دموية أخرى، حقبة «الجهاد» التي انتهت بهزيمة الروس وخروجهم مدحورين بعد عشر سنوات فيما كان النظام الشيوعي في موسكو يلفظ أنفاسه الأخيرة ونصب الروس محمد نجيب الله رئيس جهاز المخابرات الذي صمد في كابول حتى عام 1992 ثم انهار ولجأ الى مقر الأممالمتحدة. عندما دخل الروس افغانستان اعتبر الأمريكيون ذلك «هدية» وقال (بريجنسكي) مستشار الأمن القومي: «لدينا الآن فرصة لإعطاء الاتحاد السوفياتي حرب فيتنام الخاصة به» وبدأت أمريكا مع بعض من حليفاتها وخاصة باكستان في تقديم دعم لا محدود لفصائل المجاهدين بمن في ذلك الأفغان العرب كما يسمون وعلى رأسهم أسامة بن لادن. ولم تصغ واشنطن لتحذير أحد أقطاب المقاومة الأفغانية للشيوعية (عبد الحق) الذي قال في حديث لصحيفة «نيويورك تايمز» عام 94: إن ما تقوم به واشنطن «سيتحول الى سموم ليس فقط للشعب الأفغاني بل لجميع دول العالم.. وربما سيتعين على الأمريكيين يوما ما ارسال مئات الآلاف من القوات للتعامل معه.. وقد يعود الأمريكيون في وقت قريب الى بلادهم في أكياس».. وتحول سلاح المجاهدين بعد اندحار الروس الى صدور بعضهم البعض من الأستاذ الجامعي برهان الدين رباني الى «الجنرال (مستواه الثالثة ابتدائي) عبد الرشيد دستم عاشق الخمر الذي يتنقل في سيارة كاديلاك مرورا بكل أمراء الحرب الذين لا يحصى عددهم والعصابات المسلحة التي انتشرت تنهب وتتاجر في المخدرات (افغانستان أكبر منتج ومصدر للمخدرات).. وانهارت كل اتفاقات المصالحة واقتسام الحكم وسئمت واشنطن وإسلام آباد هذا الصراع الذي لا ينتهي فأسّستا حركة طالبان التي سرعان ما دخلت كابول وسيطرت على 90 في المائة من الأرض الأفغانية وأقامت نظامها الظلامي.. ثم حصل ما هو معروف لدى الجميع وصولا الى أحداث سبتمبر 2001 في نيويوركوواشنطن واحتلال أمريكا لأفغانستان. وصدق تحذير عبد الحق فقد تحولت أفغانستان من «فيتنام خاصة بروسيا» الى فيتنام ثانية لأمريكا. وها هي قوتها تغرق في المستنقع الأفغاني جارة معها دولا كثيرة من الحلف الأطلسي.. وها هي تعود الى سياسات فشلت في السابق وهي إغراء البعض بالانضمام الى نظام كرزاي واستقطاب «المعتدلين» بكل الوسائل حتى أنها أغرت أحد الشيوخ القبليين بحبوب فياغرا أسعدت زوجاته الأربع ناسية أن هذا الشيخ وأمثاله سيحولون ولاءهم بمجرد انتهاء مفعول مثل هذه الحبوب وهو ديدن كل أمراء الحرب الأفغان. هناك مثل أفغاني يقول: «إن النملة إذا اقترب أجلها نشأ لها جناحان» وتطير، فهل حرب الارهاب «البوشية» والتي يبحث أوباما عن وصف لها هل هي ضرورية أم اختيارية هي الجناح الذي ينشأ للنملة؟