تحضرنا هنا الواقعة المنسوبة لدنغ سياوينغ، الذي كان يستمع للمحاضر الامريكي من أصل صيني، والذي ذهب الى أن الميزة التفاضلية الوحيدة التي تملكها الصين في ذلك الوقت هي تكلفة العمل، فأجابه دنغ أن الميزة التفاضلية الكبرى هي الحاجة الملحّة للتنمية (قابلية نفاذ التنمية Effet de porosité)، والارادة الثابتة لتحقيقه Willed development. ولقد تحقّقت تنبؤات «الشيخ» دنغ: تطبيقا على موضوع الحوض المنجمي، سينبري بعض من «العقلاء» ليتساءلوا كيف: تكون هناك ميزات تفاضلية في غياب سياحة وفلاحة وصناعات معملية تصديرية وموارد هجرة وصيد بحري! دون الدخول في تعريفات جيو / طبيعية أو تاريخية، لا مجال لها هنا، نكتفي بالاشارة الى أن الحوض هو فضاء ضارب في القدم (طبيعيا وبشريا)، مفتوح على أقدم التجمعات في بلادنا القطار / قفصة تمغزة / الجريد. منذ الازمنة الغابرة السحيقة، تفجّر الماء من ضلوعه، ألا تعني «تابديت» خزّان الماء بالأمازيغية، ولا زالت الآبار والقنوات والمنشآت الرومانية شاهدة على ذلك. لزمن قريب جدا، ولا بأس أن نؤرخ بزمن «الحرقة» (الهجرة السرية)، شكّل سكّان هذا الحوض استثناء فريدا، دون خلق الله جميعا، ودون كل جهات البلاد، في ما قبل زمن الفوسفاط وخلاله، وتمثل هذا الاستثناء في أنهم لم يعرفوا كغيرهم تنقل السكان هجرة نهائية أو ما اصطلح عليه نزوحا (إلا ما كان اضطرارا بفعل بطش محلّة البايات عقابا على تعرّضهم لها ونهبها أو جرّاء مقاومة دخول المستعمر). في ما قبل زمن الفوسفاط شكل نمط الانتاج الرعوي / الترحالي transumant عصب الحياة لسكّان الحوض الذين تجمّعوا في وحدات (عروش) قليلة العدد، متداخلة الانساب، أحكمت قبضتها على مجالها الحيوي (أراض شاسعة / عيون ماء / مجالات رعي). اتّسم نمط الانتاج هذا بمرونة راوحت بين مروره من نمط معاشي / طبيعي أزمنة القحط، الى نمط تراكمي / تجاري في سنوات الوفرة، مكّن الكثير من ملكيات في الواحات المحيطة (الجريد خاصة)، من ضمان مداخيل قارّة ومصدر غذائي. كما اقتضى الترحال أزمنة القحط، علاوة على الحفاظ على الماشية، النفاذ الى أسواق الحبوب شراء وتجارة أو مبادلة بالتمور للمقتدرين او الحصول على هذه الحبوب والأعلاف مقابل فائض قوة العمل. كما كانت زراعة الحبوب (قمح شعير) ملازمة لهذا النمط خلال السنوات الممطرة، ومثلت التجارة الحدودية مع الجزائر وسيلة لتوظيف المال المتراكم من خلال سلع يقع تصريفها في أسواق قفصة الجريد قابس. كذلك عرفت المنطقة بجودة منتوجاتها الصوفية والوبرية ووفّر انتصاب سكة الحديد وصفاقس سوقا لتصريفها. شكّل اكتشاف الفوسفاط وبداية استغلاله نهاية القرن 19، تلازما مع احكام الاستعمار الفرنسي قبضته على البلاد التونسية، مفصلا حادا في تطوّر نمط الانتاج والحياة لسكّان الحوض. استطاع هؤلاء ورغما من عدم تكافؤ القوى (جيش نظامي / بطاريات مدفعية / أساطير تقصف من البحر)، مقابل خيّالة مدنيين، وتباطؤ سلطة محلية قبضت الرشاوى والهدايا، استطاع سكّان المنطقة فرض حقهم في التنقل والمرعى والنفاذ الى مصادر المياه والانتجاع Campement. ولم يعدموا وسيلة في المقاومة مسلّحة وسلمية (ارتحال البعض منهم الى الايالة الليبية وعودتهم فيما بعد، رفض تجنيد حرب 14/18 رفض الالتحاق بالمناجم الدفع بأبنائهم للالتحاق بالفروع الزيتونية المحلية توزر / قفصة). شكّل التحالف الاستعماري / الباياتي / الاداري المحلي محاولة لتجفيف منابع حياة السكان (ضرورة حيازة ترخيص مرور للتنقل من قيادة (ولاية) الىأخرى، حجز قوافل الحبوب والتمور والمنتجات الصوفية اغلاق الحدود الجزائرية واعتبار الاتجار في السكر والشاي والمواد الجلدية من المنوعات، هذا عدا الاسلحة، وتهجير مجموعات من مرابضها بدعوى ضرورة التنقيب او استغلال الفوسفاط. ولعل الضربة القاصمة (التي قد يجهلها الكثير)، هي تحالف الادارة المالية مع السياسة الاستعمارية، بانزال سوق الذهب عمدا لا وفق آليات العرض والطلب في محاولة لابادة مخزون المعدن النفيس، بأبخس الأثمان للاهالي مما يقصّر كل أفق للمقاومة والصمود الاقتصادي. استعاضت الشركة الاستعمارية، ذات أكبر رأسمال في ذلك الزمن (18 مليون فرنك)، عن العمالة المحلية باستجلابها يدا عاملة من كل أصقاع الدنيا ومن البلدان المغاربية الشقيقة. لا فائدة من استحضار محطّات الكفاح الوطني والنقابي وقوافل الشهداء والمشرّدين فذلك يُعدّ من باب المنّ عن الواجب مما يزيح عن هذا الواجب كل ألق وعن الشهادة كل عبق.