مثلت التهديدات الاسرائيلية الأخيرة بالعدوان على سوريا وإطاحة نظامها وبشنّ حرب شاملة بسبب مزاعم عن نقل سوريا السلاح الى «حزب الله» وتحفّظات واتهامات أخرى السّمة الأبرز لطبيعة الوضع المتوتر والمضطرب سياسيا (رغم الحديث عن هدوء عسكري) على الجبهة السورية الاسرائيلية منذ توقّف المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب والتي رعتها تركيا حتى موعد العدوان الاسرائيلي على غزة، فما هي أبعاد هذه التهديدات وأهدافها وما هي تأثيراتها المستقبلية على أي مسيرة تفاوضية بين الجانبين؟ ولم تكن هذه التهديدات التي جاءت خصوصا على لسان وزير الخارجية في حكومة الاحتلال أفيغدور ليبرمان مجرّد تعبير عن وجهة نظر شخصية لهذا الوزير المتطرّف، بل هي تعكس موقفا رسميا لحكومة بنيامين نتنياهو الذي صرّح قبل أيام بأنه مستعدّ للعودة الى المفاوضات مع دمشق دون شروط، أي دون القبول بالانسحاب من هضبة الجولان المحتلة وهو ما عبّرت سوريا مرارا عن رفضه. فهذه التهديدات إذن ينظر إليها على أنها «بالون اختبار» لجسّ نبض القيادة السورية عساها تغيّر شيئا من مواقفها ومنطلقاتها لفتح أي باب للمفاوضات أو تهتزّ (بسبب الوعيد بفقدان السلطة وخسارة الحرب معا كما زعم ليبرمان) أو تتراجع عن مبادئها في كل ما يتعلق بالدفاع عن أرضها وثوابتها. ومثل هذه السياسة لا تخرج عن سياق الحرب النفسية التي تشنّها إسرائيل منذ أشهر فتغيّر الجبهات في كل مرة وفق ما تستدعيه رؤيتها المتطرّفة، فتارة تستهدف غزة وطورا تتجه تهديداتها الى لبنان وتارة أخرى تهدّد إيران، وهذه المرة جاء الدور على سوريا.. هي إذن تريد الحرب وتنشئ لها مقدمات كلامية وتستبقها بتصعيد وتحريض وتصريحات قوية لكنها تخاف تداعياتها ونتائجها، وهي التي لا تزال ترى آثار هزيمة حربها أمام«حزب الله» صيف 2006 ماثلة للعيان، وتأبى في الوقت ذاته أن تُبدي هذا الخوف في مواقفها الرسمية، بل هي تعمد الى خطاب ترهيبي كما جاء على لسان قائد اللواء الشمالي في جيش الاحتلال الجنرال آفي مزراحي الذي هدّد باحتلال العاصمة السورية دمشق مستخفا بقدرات الجيش السوري وزاعما أن هذا الجيش لن يتمكّن من إيقاف التقدّم الاسرائيلي ليرسم بذلك مجددا صورة «الجيش الذي لا يُقهر» بعد أن تلاشت هذه الصورة من الأذهان بفضل صمود المقاومة اللبنانية في 2006 ومن بعدها المقاومة الفلسطينية إبّان العدوان على غزة قبل أكثر من عام. وحتى ردود الفعل الداخلية على تصريحات ليبرمان الأخيرة لا تمثل مرجعية للقول ان هناك أصواتا داخل اسرائيل تنادي بالسلام أو حتى بالتهدئة وتطالب بلجم «داعية الحرب ليبرمان» فكل النواب والمسؤولين الذين أدانوا تلك التصريحات كانوا من اليسار أو هم ينتمون الى حزب «كاديما» الذي خاض إبان قيادته الحكومة خلال السنوات الثلاث التي سبقت صعود نتنياهو حربين على لبنان وعلى غزة، وهذا يعني أن ما سمّي «ضجة اسرائيلية» ردّا على تصريحات ليبرمان يدخل في باب المزايدات السياسية والخصومات غير المباشرة بين التكتلات الحزبية في دولة الاحتلال، وما يؤكد ذلك أن مقرّبين من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أكدوا أنه ليس غاضبا من ليبرمان بسبب تهديداته لسوريا وأنه لن يتخذ إزاءه أي إجراء رغم «العاصفة السياسية» التي أعقبت تصريحاته لا غضبا لسوريا أو انتصارا لها وإنما لتصفية حسابات مع خصم سياسي. وكل ما سبق يؤكد أن سياسة الترهيب والضغط والوعيد إزاء سوريا وحلفائها في المنطقة هي سياسة رسمية تنتهجها اسرائيل وتوظّف لها المنابر الديبلوماسية حينا والعسكرية حينا آخر. وعموما باتت اللعبة الاسرائيلية مكشوفة، فهي تريد الهروب من استحقاقات السلام وترغب في الحصول على سلام مجاني أو بالشروط التي ترتضيها وهذا ما لن يحصل أبدا لسبب بسيط وهو أن دمشق لن ترضى البتّة بالتفريط في حقوقها وفي التنازل عن شيء من أراضيها في سبيل «سلام» أو وعد بالسلام من دولة أثبتت مرارا أنها ناكثة للعهود والمواثيق ولا تعرف سوى لغة الحرب والعنجهية والعجرفة.