ان الأشقياء في رياضتنا كثر ولكننا نحاول في كل مرة أن نمحو شيئا من بؤسهم وشقائهم لعلهم يجدون في هذه الكلمات التي نخطها عنهم بالدمع والدماء تعزية وسلوى. وصاحبنا اليوم ليس سوى محمد النوالي شهر «القوشي» أحد عمالقة الافريقي والمنتخب زمن عتوقة والشايبي والخويني وبقية الأسماء المبدعة. كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء ففي عام 1997 نزلت بمحمد «القوشي» نازلة من المرض سببه السجائر اللعينة التي لم تلبث أن ذهبت بصوته الى الأبد الا من كلمات خافتة يهمس بها همسا يفك رموزها أفراد عائلته ومن استأنس بالجلوس اليه وقد خلفت العملية الجراحية التي أجراها على مستوى الحبال الصوتية ثقبا بليغا على مستوى الحنجرة لو شاهدته لصرخت من هوله صرخات تذوب لها حبات القلوب. رحلة البحث عن «القوشي» لم يكن العثور على «القوشي» بالأمر الهين خاصة وأنه عاجز عن استخدام الهاتف الجوال... وكان كل ما توصلنا اليه من رفاق دربه أنه يقطن شقة بالمدينةالجديدة (ولاية بن عروس) فخرجت أسائل الناس عليه في كل مكان وأتصفح وجوه الغادين والرائحين علني أراه أو أرى من يهديني اليه الى أن التقيته فلبثت شاخصا اليه هنيهة قبل أن يطلب مني مرافقته الى منزله. يتواصل الصفير وبكلمات خافتة جلست بجانبه ليفضي اليّ بهمه كما يفضي الأب لابنه فقد أحسست أنني بت معنيا بأمره أكثر من أي شخص آخر وقد استدعى ابنته لتكون بمثابة «الترجمان» كلما استعصى علي فك كلمة من الكلمات التي ينطق بها والتي قد يزعجك مسمعها ولكن سرعان ما تشعر أنها صادرة من أعماق نفسه فأصبحت كأنني أسمع رنينها في أعماق قلبي تحدث «القوشي» قائلا: لقد مسني الضر وفقدت صوتي ولكنني لم أفقد إيماني بالله عز وجل وبالقضاء والقدر خيره وشره وقد أخبرني الأطباء أن السجائر هي السبب .... ولكن أعتقد شخصيا أنه من لم يمرض جراء التدخين مرض بغيره تعددت الأسباب والمرض واحد.. اعتراف بالرغم من مضي عدة عقود على اعتزاله إلا أن «القوشي» يصرّ على الاعتراف بذنب ارتكبه في حق جسمه حتى أصبح عليلا: «أنا أيضا مسؤول عما حدث فقد بالغت في التدخين منذ أن كنت لاعبا فقد كنت أستهلك أربع علب يوميا! وذلك في غفلة من الجميع.. ثم يجذب قميصه ويكشف عن صدره.. ويا لهول ما شاهدت.. كان ثقبا عميقا على مستوى أسفل الحنجرة.. شعرت بعدها أن قلبي قد فارق موضعه الى حيث لا أعلم له مكانا..». اختار المستشفى ورفض المصحّة! «بعضهم يختار المصحة بدل المستشفى وهل المصحّة بما حوت قادرة أن تؤخر ما يقدمه القضاء؟» تلك عبرة أخرى يطالعنا بها «القوشي» الذي رفض إجراء العملية الجراحية بإحدى المصحات الفخمة وتعمّد أن يخضع للجراحة في معهد صالح عزيز فسيان عنده بين المستشفى والمصحة مادامت الأعمار بيد اللّه عزّ وجلّ. يرفض استعادة صوته! وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام ذلك أنه بإمكان «القوشي» استعادة صوته تدريجيا من خلال حصص خصوصية في النطق لكنه رفض مثل هذا الاجراء معلّلا: «آمنت بالقضاء فليصنع الدّهر بي ما يشاء مجتهدا فلا زيادة فوق ما صنع! هكذا قضى الله أن أفقد صوتي ولا يمكنني أن :أعترض عمّا قسمه لي خالقي». العمل مهابة والبطالة مذلّة «اعمل حتى تكلّ ولا تحطّ روحك للذلّ» ذلك ما قاله الأجداد الأولون وما اتخذه «الڤوشي» نهجا لا يحيد عنه في حياته حتى وإن فقد صوته الى الأبد!! لأنه أدرك ان القعود في الدار قبيح وأن العمل فيه مهابة والبطالة فيها مذلّة... وهي عبرة أخرى نتعلّمها من «الڤوشي» الذي كان باستطاعته ان يظل قابعا في منزله يتصيّد الملايين من خلال العزف على أوتار ما حلّ به من كرب خاصة أنه أشهر من نار على علم وينتمي الى فريق جماهيره تعدّ بالملايين لكن اتضح أن «الڤوشي» من طينة قوم كأن نفوسهم بها أنف وعزّة نفس ان تسكن اللحم والعظم فقد قال: «آمنت بأن اليد العليا خير من اليد السفلى... لا أريد مالا بل أريد عطفا وحنانا وسؤالا فحسب». ربّي خلاّص الحقوق حوّل الڤوشي بصره باتجاه صورة معلّقة على الجدار وقد ظهر فيها صحبة محمد الهادي البياري ولكن سرعان ما أمسك بين أهداب عينيه دمعة مترقرقة ما تكاد تتماسك وقال: «تلك الصورة ذكّرتني كيف تحرّكت جماهير الافريقي وقالت كيف نفارق القوشي والبيّاري ولم نودّعهما؟ فأقامت الهيئة المديرة مقابلة توديعية على أن تعود عائداتها لفائدتي أنا والبيّاري مناصفة. لكن السيد شريف بالأمين كان له رأي آخر والتقم جميع المداخيل المقدّرة بحوالي 117 ألف دينار وحرمني بالتالي من حقي الشرعي المقدّر بأكثر من 58 ألف دينار واكتفى بمنحي 5 آلاف دينار من جملة 10 آلاف دينار كان أمر السيد حمادي بوصبيع بصرفها لفائدتي»!!! إنها حكاية أغرب من الخيال وقد لا تنطبق عليها سوى ما قاله أجدادنا: «فمّي مغلوق وقلبي صندوق وربي فوق يخلّص الحقوق». ويضيف «الڤوشي» قائلا: «أنا لست من طينة من يهوى السّباب وأكره أن أعيب وأن أعاب وأحب مكارم الاخلاق وأرحت نفسي غمّ الخصام والعداوات... سامح الله من ظلمني» ذلك أنه لا يحمل الحقد والبغض من تعلو به الرتب. ادخار الرجال اختبرته الحياة كثيرا فأدرك أن ادخار الرجال أولى من ادخار المال فهو عائد ورائح و«الڤوشي» لم يجد من يكفله سوى السيد حمادي بوصبيع «الأب الروحي» للاحمر والابيض فأمّن له عملا يسد من خلاله حاجته يتحدث الڤوشي عن ذلك قائلا: «إنه خير الاعراف وأكرمهم وأوسعهم برّا وإحسانا وأكثرهم عطفا وسخاء فقد أنزلني من نفسه منزلة لم ينزلها أحد من قبلي وبالاضافة الى العمل فقد أهداني سيارة جديدة ذلّلت من خلالها مشقة التنقّل الى مقر عملي». أوفياء للشدائد ازرع جميلا ولو في غير أهلك فلا يضيع جميل حيثما زُرع والسيد سليم شيبوب وبالرغم من أنه ينتمي الى العائلة الترجية إلا أنه أقدم على مساعدة «الڤوشي» في محنته: «الحقيقة أنه كانت تجمعني علاقة صداقة متينة بإلياس شقيق سليم شيبوب وهو ما جعله يتدخل شخصيا ويتّصل بوزير الشؤون الاجتماعية منذ عدّة سنوات لأتحصّل على شقّة في المدينةالجديدة مقابل ايجار رمزي». ما يحمل همّك كان اللي من دمك لقي «الڤوشي» من الشقاء ما لا يستطيع أن يتحمّله بشر ولكنه استطاع ان يحيا ويحيا أبناؤه بجانبه فالله عزّ وجل كان أرحم به من أن يسلبه صوته ويسلبه السعادة معا فكلما أظلمت الحياة أمام عينيه رأى في الافق البعيد ثلاثة أشعّة من سماء الرحمة الالاهية حتى تتلاقى في فؤاده فتملأه عزاء وصبرا: زوجة صالحة ترعاه وبنتان أصبح لا يرى سعادته الا في فجر ابتسامتهما ونجاحهما الدراسي الباهر وابنه وجدي الذي سيكون سنده وعضده مستقبلا كلما لجأ الى معونته في شيخوخته. الافريقي مرتزق يرتزق منه المرتزقون بمجرّد أن ذكرت أمامه النادي الافريقي ارتاح قلبه لذكره وانتفض كما العصفور من بلل القطر ولكنه سرعان ما عبّر عن سخطه: الافريقي يملك زادا بشريا ثريا ولكنه غير قادر على فرض ألوانه...فريق باب الجديد أضحى قبلة للمرتزقة وإن صفقة أتوروغو واحدة من تلك الصفقات الدنيئة... وهنالك عدّة دخلاء في صلب الهيئة المديرة مثل... هنا شعرت أنه يهمهم باسم شخص معيّن وعندما عجزت عن فهمه أشار أن آتيه بقلم وورقة فكتب عليها الشخص الذي يريد: لحظة الوداع فارقته وما أشدّ فراقه فهو يسحرك بكلامه العذب وبشاشته والابتسامة التي لا تفارق ثغره، لقد هوّن وجدي على هذا البائس المسكين أنني استطعت أن أنقل صوته الخافت لنحوّله عبر صفحات جريدتنا الى صوت عال ينطق بالحق لأن جولة الباطل ساعة وجولة الحق الى قيام الساعة.