أفلت من الكمائن (كمائن الورد والنبيذ) التي هي مجموعته الصادرة سنة 2009 ليحاور «الرياح» بين جناحيه. «الرياح بين جناحي» أحدث مجموعة للشاعر هادي دانيال الذي ظل وفيا لأسلوبه وخطه أيضا.. الرجل يتنفس انتماء وهو الأسير للغة زاوجت بين الروح المعاصرة وانغماسها في عمق التاريخ وعبقه.. حين يكتب هادي دانيال لا يصبح التأريخ لديه نسبيا ! من يجزم أن نزل الكونتينونتال مثلا لم يعرفه عقبة أو لم يأمر بتشييده، فحين يتحدث عن القيروان تطبق كل الأزمنة على الحاضر فهو يدعو لتخفيف الوطء وهو يحيلنا على قصيد المعري «خفف الوطء» و«صاح هذه قبورنا تملأ الرحب..». ألم نقل أن الأزمنة في تباعدها مسألة بحاجة الى إعادة نظر!؟ وحين تكون في حضرة هادي دانيال يصعب أن تفكّ الاشتباك بين الذاتي وسائر القضايا الأخرى. امرأة الحلم وغزة ودمشق والنهود التي تعيد للروح ألقها.. «كانت امرأة الحلم عارية فوق مرج وتلمع بين الفراشات صدرا وخصرا وكنت أنا أتعرّى وتلسعني الرغبات إليها مها ميّز حرّى» من «نجمة أريحا» الى «دمها يشرق الآن في أفق من حديد» يتوغل هادي دانيال ليرسم صورة البشاعة التي تلهيه الى حين عن «شبق الهمسات»: «العمارات تهوي على رُكَب وتكبّر في غضب والدخان يعرج نحو السماء بأرواح سكانها».. ......... «تصاعدت في الكون رائحة الشواء وسال من كل النّيوب لُعَابها وتسابق المتحمسون الى مزاد شرائها أو بيعها» كيف السبيل إليك غزة والفتى في مقهاه؟: «وراء زجاج مقهاي الصغير ويداي على كتفيّ استجير بدفنها مطر هنا وأنا أحاول أن أعيد الى رموشك كحلها.. مطر وتغتسل الشوارع من دموع مدينة بكت المدينة أختها» (كنت وحدي!) ويوغل في وصف المأساة كم كنت وحدك كم كنت غزّة لا نصير لك سوى قلب الشاعر والدعوات! «صار قلبي في أذنيّ طبولا تدق على وقعها سار جند العدو كنت وحدي، لا لم يجئ مسلمون إليّ ولا عرب.. كلهم من وعيد عمائمهم وصليل صوارمهم الى صمتهم هربوا..» أي معنى للفحولة وأي معنى للحياة ما الفاصل بين الشك واليقين والشاعر مغلول من المهد الى النهد يبحث عن لغة تؤثثه تعطي معنى لحياته بعيدا عن الزجاج والمطر المتهاطل وقهر المسافات: «قفا نبتدع لغة مغايرة دعانا الشعر كنّا متعانقين وعُرينا يثّاءب في عتبات النوم كانت القصيد ثيّبا. وأنا أتفقد عذريتي» وبين النهد والعذرية تعود الأوجاع.. يعود الشاعر بالذاكرة الى 27 عاما يعود الى التي تذوقت لسانها أملاح بحار مهزوم: «وبين شفاهي وأصابعي انفرطت حبّات رمان قابس ...... أرقا يتصفح الفيسبوك يقرأ الوجوه المتلعثمة يمدّ تمساح التعب رأسه من الأعماق شمّر عن عينيه يحاور الأزرق البعيد» صمت عبثا حاول أن يخفي.. لكن العبارة نطقت.. نطت وأفصحت رفضت التخفي.. رفضت ألاعيب «الحوزات الصامتة» فلا خير في اللذات من دونها شر ولا خير في وطن يذكر بصوت خافت..! كانت فلسطين حاضرة كانت كل العواصم العربية تبصر عيون سكانها وتشهد أن الشاعر لم تلهه الحلمات ولا النهود ولا القدود عن تضاريس الوطن.. حتى وهو يعالج قضاياه الحميمية: «حفظت عن ظهر فم وباطن كفّين عدد مسامات جسدها لكنها لم تكمل يوما قراءة صفحة واحدة من كتبي طوبى لجسدها العارف بحدسها كيف يصادني أعواما من شعري حتى كعبيّ معلّقا قلبي على مخلبها» ولكن الفتى الشارد تطارده نفسه «الأمارة بالتقوى» وهو يدلق البيرة: «أيها العقل انكسرت عصاك والخضراء بين تضاريس أقبل بلحيتك البيضاء التي أحنى ثقلها ظهر الحكمة» كتابه على يساره وإشارات المساجد والبنوك تباغته: إقرأ! يرتعش يرتبك يفقد الطمأنينة لكن.. «كلما ارتعشت يداي وجفّ ريقي تلد النهود أصابعي وفمي!» ألم وحب وشوق وذكرى ومنفى.. رحلات وانتظار حكمه ونزق ونهر من عسل النهود ووطن معروض كنجمة ليل في العلب ليكون علبه فماذا بقي؟ «ماذا تبقى لي سوى فجر يطل عليّ من عيني أمّي وحنان كفيها يسيل على جبيني وغراس والدي التي في ظلها ارتاح من تعب السنين» وهل يرتاح من غازل «نجمة أريحا» ومن «يشرق دمها الآن في أفق جديد» وهل يرتاح من اتخذ من البحر فراشا والصحراء وسادة؟ هل يرتاح من يولد مرات وهو يحتضن الفراغ؟ هل قال الهادي دانيال كل ما لديه؟ هل تحفظ؟ هل اقتصد في الهجاء ليفسح المجال لعالمه الصغير المتلبس بأشيائه التي تحاور وطنا ساعيا الى التخفّي؟ هل أرسل الشاعر في هذه المجموعة رسائل هدنة؟ هل آن للسندباد أن ترتاح؟ يطارد الحكمة؟