في تاريخ الادب العربي رجالات اشتهروا بالشجاعة والكرم والحلم والذكاء حتى ضُرب بهم المثل في هذه الخصال، ونحن إذ نقرأ هذا البيت الشعري: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس ندرك أن الشاعر يشيد بشجاعة عمرو بن معد يكرب وبكرم حاتم الطائي وبحلم أحنف قيس وبذكاء القاضي إياس. وممن اشتهر غير هؤلاء بالكرم والحلم ودماثة الخلق معز بن زائدة الشيباني الذي كان عاملا بالبصرة، وهو القائل لمن لامته على كثرة عطائه وتفريق أمواله: دعيني أنهب الاموال حتى أعفّ الأكرمين عن اللئام وكان معن رحب الصدر متسامحا لا يغيظ أحدا ولا أحد يستطيع أن يغيظه فاتفق أن أحد الشعراء قال: أما أغيظه ولو كان قلبه من حجر وراهن على ذلك جماعة على أن يعطوه مائة بعير إن استطاع ذلك وإلا دفع هو مثلها الى المتراهنين. فقبل الرهان وذبح جملا وسلخه ولبس جلده جاعلا اللحم من خارج والشعر من داخل والذباب يقع عليه، ولبس برجليه نعليْن صنعهما من جلد الجمل جاعلا اللحم من خارج والشعر من داخل وقصد مجلس معن وجلس بين يديه ومدّ رجليه في وجهه وتوجه اليه بالخطاب قائلا: أنا والله لا أبدي سلاما على معن المسمّى بالامير فقال له معن: إن سلّمت رددنا عليك وإن لم تُسلم ما عتبنا عليك. فقال الشاعر: ولا آتي بلادا أنت فيها ولو حزت الشام مع الثغور فأجابه معن: البلاد بلاد الله إن نزلت فمرحبا بك وإن رحلت كان الله في عونك. فقال الشاعر: وأرحل من بلادك ألف شهر أجدّ السير في أعلى القفور فقال له معن: تصحبك السلامة في سفرك، فقال الشاعر: أتذكر إذ قميصك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعير أجابه معن: أعرف ذلك ولا أنكره، فقال الشاعر: وتهوى كل مصطبة وسوق بلا عبد لديك ولا وزير فقال معن: ما نسيت ذلك أبدا يا أخا العرب، قال الشاعر: ونومك في الشتاء بلا رداء وأكلك دائما خبز الشعير فقال معن: الحمد لله على كل حال. قال الشاعر: وفي يمناك عكّاز قوي تذود به الكلاب عن الهرير فقال له معن: ما خفي عليك خبرها؟ إنها مثل عصا موسى عليه السلام. فقال الشاعر: فسبحان الله الذي أعطاك ملكا وعلّمك القعود على السرير فقال معن: هذا بفضل الله لا بفضلك أنت، فقال الشاعر: فعجّل يا بن ناقصة بمال فإني قد عزمت على المسير فأمر لع معن بمائة دينار، فقال الشاعر: قليل ما أمرت به فإني لأطمع منك بالشيء الكثير فأمر له بمائة دينار أخرى، فقال له الشاعر: فثلث إذ ملكت الملك رزقا بلا عقل ولا جاه خطير فأمر له بثلاثمائة دينار، فقال الشاعر مواصلا مع البيت السابق: ولا أدب كسبت به المعالي ولا خلق ولا رأي منير فأمر له معن بأربعمائة دينار. وهنا علم الشاعر انه لن يستطيع أن يغيظ معنا ولا أن يستفزّه، وأيقن أن رهانه خاسر، وأنه ما كان ينبغي له أن يقول في هذا المجلس ما قاله، فأنشد: فمنك الجود والافضال حقا وفيض يديك كالبحر الغزير فما كان من معن إلا أن أمر له بخمسمائة دينار، ومازال الشاعر يطلب من معن الزيادة حتى استكمل ألفد ينار، فأخذها الشاعر وانصرف وهو يتعجب من شدة حلم معن وعدم انتقامه منه، بل ومن مكافأته بالمال وجعل يردد بينه وبين نفسه (مثل هذا لا ينبغي أن يُهجى بل ينبغي أن يمدح) ثم انه اغتسل ولبس ثيابه ورجع الى معن فسلم عليه ومدحه واعتذر له بأن ما جعله يقول فيه ما يقول إلا طمعا في المائة بعير التي أصبح مطالبا بها لمن راهنوه، فقال له معن: أمرت لك بمائة بعير نظير الرهن وبمائة أخرى لك خاصة، فأخذها الشاعر وانصرف مغتبطا شاكرا مادحا داعيا بالخير.