فيديو صادم يوثق اعتداءً على طفل في القيروان: الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تتحرك قضائيًا    سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية المنقضي    أحمد الجوادي قصة نجاح ملهمة تشق طريق المجد    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    جلسة عامة خارقة للعادة لجمعية شبكة أطفال الارض يوم 13 اوت الجاري    صيف 2025 السياحي: موسم دون التوقعات رغم الآمال الكبيرة    خطير/ حجز 7 آلاف رأس خروف في محل عشوائي..وهذه التفاصيل..    القبض على "ليلى الشبح" في مصر: سيدة الذهب والدولارات في قلب العاصفة    الصين ترفض مطالبات واشنطن بعدم شراء النفط الروسي    7 قتلى خلال أعمال شغب في سجن بالمكسيك    استشهاد 56 فلسطينيا برصاص الاحتلال خلال بحثهم عن الغذاء    الحماية المدنية: إطفاء 105 حريقا خلال ال24 ساعة الماضية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 من الأطفال فاقدي السند ومكفولي الوزارة للعرض التّرفيهي La Sur la route enchantée    عاجل/ تحذير من مياه الشرب المعلبة عشوائيا..    نتائج المباريات الودية لأندية الرابطة الأولى    الألعاب الأفريقية المدرسية: تونس في المرتبة الثالثة ب141 ميدالية    إنتقالات: الناخب الوطني السابق يخوض تجربة إحترافية جديدة    طقس اليوم.. انخفاض طفيف في درجات الحرارة    اليوم.. البحر شديد الاضطراب والسباحة ممنوعة    بنزرت: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    تأجيل محاكمة طفل يدرس بالمعهد النموذجي بعد استقطابه من تنظيم إرهابي عبر مواقع التواصل    عاجل: الكاف يرفع جوائز الشان ل10 ملايين دولار وفما فرصة للتوانسة!    ديوان التونسيين بالخارج ينظم الخميس 7 اوت الندوة الاقليمية الثالثة لاصيلي ولايات ولايات القصرين و سليانة القيروان و سوسة والمنستير و المهدية    قرارات عاجلة لمجابهة انقطاعات مياه الشرب بهذه الولاية..    محمد عادل الهنتاتي: مصب برج شاكير كارثة بيئية... والحل في تثمين النفايات وتطوير المعالجة الثلاثية    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    عاجل: مناظرة جديدة لانتداب جنود متطوعين بجيش البحر... التفاصيل والتواريخ!    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    خزندار: القبض على عنصر إجرامي خطير متورط في عمليات سطو وسرقة    فيديو -حسام بن عزوز :''الموسم السياحي يسير في الطريق الصحيح و هناك ارتفاع إيجابي في الأرقام ''    عاجل/ خلال 24 ساعة: استشهاد 5 فلسطينين جراء الجوع وسوء التغذية..    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    عاجل: تسقيف أسعار البطاطا والسمك يدخل حيّز التنفيذ    الصولد الصيفي يبدا نهار 7: فرصة للشراء ومشاكل في التطبيق!    شبهة تلاعب بالتوجيه الجامعي: النيابة العمومية تتعهد بالملف والفرقة المركزية للعوينة تتولى التحقيق    وزير السياحة يعاين جهود دعم النظافة بجزيرة جربة ويتفقد موقعا مبرمجا لاقامة مدينة سياحية ببن قردان    عاجل/ مقتل فنانة خنقا في عملية سطو على منزلها…    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    أول رد لحماس على طلب نتنياهو بشأن "غذاء" الرهائن..#خبر_عاجل    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    القناوية... فوائد مذهلة في ثمرة بسيطة... اكتشفها    مهرجان الفنون الشعبية بأوذنة: الفنان وليد التونسي يعود للركح ويستعيد دفء جمهوره    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    يحدث في منظومة الربيع الصهيو أمريكي    مصب «الرحمة» المراقب بمنزل بوزلفة .. 130 عاملا يحتجون وهذه مطالبهم    أيام قرطاج السينمائية تكرّم الراحل زياد الرّحباني في دورتها المقبلة    العهد مع جمهور الحمامات ...صابر الرباعي... يصنع الحدث    واقعة قبلة الساحل تنتهي بودّ: اتصال هاتفي يُنهي الخلاف بين راغب علامة والنقابة    منظمة الصحة العالمية تدعو إلى إدماج الرضاعة الطبيعية ضمن الاستراتيجيات الصحية الوطنية وإلى حظر بدائل حليب الأم    لماذا يجب أن ننتبه لكمية السكر في طعامنا اليومي؟    هكذا سيكون الطقس هذه الليلة    عاجل : أحمد الجوادى يتألّق في سنغافورة: ذهبية ثانية في بطولة العالم للسباحة!    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«وحدات التدخل التشكيلي» (BIP) التونسية تحظى باهتمام عالمي : الخروج بالفن التشكيلي التونسي من المراسم المظلمة
نشر في الشروق يوم 29 - 03 - 2010

ثمة مغامرات فنية في تونس طريفة وخارجة عن المألوف لا نكاد نأخذها بعين الاعتبار, بل قد نتحاشى الانتباه إليها , لأنها فقط اجترحت لنفسها طريقا غير معبد, ولأننا عادة ما نكون تحت سطوة أفكار مسبقة, أيديولوجيا ثقافية مهيمنة تثنينا عن التأمل فيها, وربما تحظى هذه التجارب باهتمام الآخر فيثمّنها, ويعطيها قيمتها التي تستحق , فنعيد الانتباه إليها , ونحاسب أنفسنا عن ضيق الأفق وعن السلبية المتأصلة في طواحيننا اليومية المأخوذة بسلطة الشيء المكرس والمتفق عليه سلفا والحال أننا نتظاهر باليقظة, لكنها في الحقيقة بيقظة مزيفة, فنعاود الكرة في تقزيم أنفسنا والشك في قدراتنا ... وكأن الآخر «الغيري» هوقدرنا يعيد إلينا معاني الأشياء ... هذا ما حدث مع تجربة تشكيلية تونسية تعرف ب«وحدات التدخل التشكيلي» ينتبه إليها فنان أمريكي من نيويورك ليقوم بترويجها مع حفظ حقوق أصحابها ...
عبد الحليم المسعودي
في عزلة الفن التشكيلي ونخبويته
لا شك أن الفن التشكيلي التونسي، بكل أشكاله ومظاهره لا يزال محبوسا في دوائره الخاصة به . وهي دوائر لها قوانينها الخاصة سواء كانت سوقا تشكيلية, أومراسم, أومعارض , أوأروقة , أومعايير باطنية مغلقة على أهلها وزبائنها وروادها ومريديها ووسطائها ومضارباتها الخاصة, وحرّاسها من نقاد وأكاديميين ومنظرين وخبراء في مجال الفن, ومروجين ومعدلي أسعاره ... ومتاهة الفن التشكيلي في تونس, هي أكثر من متاهة ... إنه عالم داخلي لا يقبل الشفافية ولا الإعلان المباشر , بالقدر الذي ينتعش فيه في كنف السريّة, والتكتلات, والمدارس, والعلاقات الخاصة والخاصة جدا ... متاهة لها قوانينها الخاصة, ولها مصالحها، ولها مواسمها ومتنفّذوها ومهمّشوها ... وكم نفاجأ كل مرّة برحيل فنان تشكيلي تونسي – وهم يرحلون الواحد تلوالآخر – دون أن يكون رحيله متبوعا بأسرار , وقصص وحكايات , ومسائل , هي جزء قليل من أسرار تلك المتاهة المدوّخة التي تجعل الفن بعيدا عن الناس ومحصورا في دوائره النّخبوية المغلقة ... وقد تكون مضامين هذا الفنان أوذاك محتضنة لهموم الناس ومشاغلهم وأحلامهم، غير أنه من يملك هذه الأعمال؟. من يملك أعمال عمّار فرحات, أوعمارة دبّش, أوالحبيب بوعبانة كفنانين تونسيين كرسوا حياتهم لتصوير هموم الناس ونقلها جماليا إلى أعمال خالدة؟.
وبالمقابل ينأى الفن التشكيلي عن الناس, وعن إمكاناتهم... هكذا يمارس الفن في عزلته وظلمته وأسراره. ويظل تشريك الناس في لحظة الإبداع فكرة طوباوية, بل خيالية محصنة بفكرة مقدسة , هي سر الفن وطقوسه .
«وحدات التدخل التشكيلي»... أو ميلاد «الأسلوب التونسي»
لكن بالمقابل أيضا ثمة تجربة جديرة بالاهتمام في كسر هذا الطوق , وحمل الفن إلى الناس , كسر مركزيته الموحشة في اتجاه لامركزية ممكنة قامت بها جماعة سمت نفسها ب «وحدات التدخل التشكيلي» (Brigade d'Intervention Plastique), وفي الاسم نفس مغامر ومقاوم لا يخلومن مخيلة وروح فوضوية , حلم بها الهاشمي غشّام فنان وشاعر وناقد وإعلامي, ونفّذها في أواخر الثمانينات, وواصلها مع مجموعة من الفنانين التشكيليين وتحولت حين اكتشف هذه التجربة فنان وأكاديمي أمريكي هودافيد بلاك David Black إلى ما يعرف الآن بالأسلوب التونسي ‘' Tunisian style ‘' , وقام بتنفيذها منذ العام الماضي بنفس الأسلوب في الولايات المتحدة الأمريكية, وتحولت إلى نسق بات يعرف بالأنقليزية تحت عنوان أوطريقة : The Tunisian – style Collaborative Painting, أي «الأسلوب التونسي في التّعاون التشكيلي», وفيه دلالة على حسّ بيداغوجي يستأهل الاهتمام.
تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التونسية انطلقت كما أشرنا في أواخر الثمانينات في مدينة المهدية على يد هاشمي غشام الذي جمع ثلة من الفنانين التشكيليين التونسيين في هذه المغامرة الفريدة من نوعها كالفنان الراحل عبد الرزاق الساحلي وخالد بن سليمان والحبيب بيده والراحل فوزي الشتيوي والأمين ساسي وعلي خوجة وإبراهيم العزابي وغيرهم, ليقوموا بانجاز أعمال تشكيلية على عين المكان في إطار ماراطون تشكيلي يمتد من 24 ساعة أو70 ساعة متواصلة يتم فيها إنجاز أعمال جماعية وأخرى فردية انطلاقا من موضوع أوتيمة موحدة, وهي عملية قائمة على الحرية في الأسلوب والأداء, ثم يتم في نهاية هذا الماراطون التجريبي الوصول إلى توحيد الأسلوب من خلال انجاز عمل تشكيلي ضخم تمحي فيه الفوارق الأسلوبية الفردية لتنصهر في أسلوب جديد لا يمضيه فنان واحد بل هوثمرة المجموعة المنخرطة في هذه المغامرة. ثم تواصلت هذه المغامرة طوال التسعينات مع انقطاعات متكرّرة , غير أن العشرية الأولى شهدت عودة هذه التجربة, حين عملت «وحدات التدخل التشكيلي» في توسيع هذا النشاط على مستوى اللامركزية , كثفت تدخلها لهذا النوع من المغامرة, فقامت بنشاط في مدينة دوز بمناسبة مهرجان الصحراء وفي مدينة تازركة وفي الحمامات وتونس بفضاء مسرح التياترو ونهج مرسيليا, وآخرها في العام الماضي في ساحة محمد علي بمناسبة العدوان على غزة, كما سبق لها وأن عرفت بهذه المغامرة مباشرة على أركاح التلفزة التونسية... وفي هذه الأثناء أيضا عدد هام من الفنانين التشكيليين الجدد لمغامرة التدخل كالراحل نجيب بلخوجة وحمادي بن سعد ومراد الزارعي وحليم قارة بيبان وألفة جغام, وبسمة الهداوي, ومحمد شلبي, وعمر باي, ومصطفى بن عطية, وزياد لصرم ونجاة غريسة وآخرهم من الشباب الصاعدين حمدي مزهود .
طريقة التدخل التشكيلي وأسلوبه
وفلسفة «وحدات التدخل التشكيلي» تقوم على رصد فكرة الخروج بالفن التشكيلي من عزلته التقليدية إلى فضاءات ومناسبات جديدة غير مألوفة, وتجاه متلق جديد لا يتم التفكير فيه بطريقة انتهازية هدفها تحويله إلى زبون, وإنما تحويل هذه العلاقة التقليدية إلى علاقة تفاعلية قائمة على الارتجال والمباغتة والمشاركة في لحظة إنجاز العمل الفني, واستكشاف المتلقي لأسرار المنجز الفني وهو يتشكل, إلى جانب تحويل علاقة الفنان التشكيلي بزميله من علاقة المزاحمة والغريم إلى علاقة المحاورة الأسلوبية والتفاعل الجمالي في اتجاه هدف موحد هوهدف وحدة الأسلوب والتبني المشترك للإنتاج الفني, كما تقوم تجربة وحدات التدخل التشكيلي « على التعامل مع المؤسسات والجمعيات الثقافية من منطلق المساهمة في تقاسم تكاليف الإنجاز الفني , ومساهمة الفنانين من خلال هذه المغامرة بأعمالهم لهذه الجمعيات لاستثمارها كقيم مادية يعاضدون بها مداخيلهم عندما تتمكن هذه الجمعية الثقافية من ترويج وبيع هذه الأعمال لفائدة نشاطهم الثقافي أو الاجتماعي. فعملية التدخل بالأساس متعددة الأهداف, تدخل جمالي وفني على مستوى تقريب الممارسة الفنية للجمهور الذي قد يجهل الميلاد الخاص للعمل الفني فتحصل بذلك المعرفة والتربية الذوقية, وتدخل ثقافي تنشيطي لأن مغامرة الرسم في حيز زماني موحد يتخذ شكل الماراطون يخلق حوله حراكا ثقافيا مهما لا يخلومن فائدة ومن تأكيد على فكرة المواطنة عبر المسلك الجمالي والثقافي, وهدف اجتماعي جمعياتي لأن مردود هذه العمليات قد يساهم بشكل رمزي في تقوية هذه الجمعية أوتلك في مواصلة نشاطها, وهدف ثقافي سياسي لأن مثل هذه العمليات تخرج الفن التشكيلي وممارسته من عزلته تجاه لامركزية تقطع من الأماكن الخاصة والمغلقة والنخبوية في التعامل الفني التشكيلي إلى جانب كون المنتج الفني الذي عادة ما يكون ضخما (يبلغ معدل اللوحة الفنية حجم 6م x 12م) لا يمكن الاحتفاظ به بالنسبة إلى مقتني الأعمال أو جامع أعمال فنية وإنما هي لوحات صالحة للعرض العمومي في الأماكن والفضاءات العمومية يراها الجميع ويتذوقها متلق عمومي.
«الأسلوب التونسي»
في نيويورك
في شهر فيفري الماضي عرضت ثلاث مجموعات من الرسامين والفنانين التشكيليين الأمريكيين التابعين لأكاديمية معهد ليم للفنون الجميلة Lyme Academy College of Fine Arts بنيويورك مجموعة من الأعمال الفنية أمام الجمهور وأمام طلبة الفنون الجميلة معرفين طريقة عملهم ب«الأسلوب التونسي», وقد قادهم إلى هذه التجربة الأكاديمي والفنان التشكيلي دافيد بلاك الذي سبق وأن تعرف العام الماضي على تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التي يديرها الهاشمي غشام, كما سبق له وأن ساهم مع الهاشمي غشام ومراد الزارعي وحمادي بن سعد في إنتاج أعمال تشكيلية في تونس في المرسم الخاص لفضاء بوعبانة... دافيد بلاك نقل أسلوب هذه المغامرة في الأوساط التشكيلية والجامعية, وقام بسلسلة من المحاضرات للتعريف بهذا الأسلوب التونسي, وقد بدأت فعلا هذه التجارب تظهر شيئا فشيئا كأسلوب بيداغوجي وفني في بعض الأوساط كما هوالحال في معاهد الفنون الجميلة في كارولينا الجنوبية وفيلادلفيا ونيويورك تحت إسم «الأسلوب التونسي»... ويبدوأن هذا الأسلوب الذي روج له دافيد بلاك في نيويورك قد حظي باهتمام عملي في بريطانيا وكندا وسويسرا , واهتمت به وسائل الإعلام الأمريكية, وقد عرفت مؤخرا قناة العربية من خلال وثائقي بانتشار هذا الأسلوب في نيويورك ...
في عزلة الفن التشكيلي ونخبويته
لا شك أن الفن التشكيلي التونسي، بكل أشكاله ومظاهره لا يزال محبوسا في دوائره الخاصة به . وهي دوائر لها قوانينها الخاصة سواء كانت سوقا تشكيلية, أومراسم, أومعارض , أوأروقة , أومعايير باطنية مغلقة على أهلها وزبائنها وروادها ومريديها ووسطائها ومضارباتها الخاصة, وحرّاسها من نقاد وأكاديميين ومنظرين وخبراء في مجال الفن, ومروجين ومعدلي أسعاره ... ومتاهة الفن التشكيلي في تونس, هي أكثر من متاهة ... إنه عالم داخلي لا يقبل الشفافية ولا الإعلان المباشر , بالقدر الذي ينتعش فيه في كنف السريّة, والتكتلات, والمدارس, والعلاقات الخاصة والخاصة جدا ... متاهة لها قوانينها الخاصة, ولها مصالحها، ولها مواسمها ومتنفّذوها ومهمّشوها ... وكم نفاجأ كل مرّة برحيل فنان تشكيلي تونسي – وهم يرحلون الواحد تلوالآخر – دون أن يكون رحيله متبوعا بأسرار , وقصص وحكايات , ومسائل , هي جزء قليل من أسرار تلك المتاهة المدوّخة التي تجعل الفن بعيدا عن الناس ومحصورا في دوائره النّخبوية المغلقة ... وقد تكون مضامين هذا الفنان أوذاك محتضنة لهموم الناس ومشاغلهم وأحلامهم، غير أنه من يملك هذه الأعمال؟. من يملك أعمال عمّار فرحات, أوعمارة دبّش, أوالحبيب بوعبانة كفنانين تونسيين كرسوا حياتهم لتصوير هموم الناس ونقلها جماليا إلى أعمال خالدة؟.
وبالمقابل ينأى الفن التشكيلي عن الناس, وعن إمكاناتهم... هكذا يمارس الفن في عزلته وظلمته وأسراره. ويظل تشريك الناس في لحظة الإبداع فكرة طوباوية, بل خيالية محصنة بفكرة مقدسة , هي سر الفن وطقوسه .
«وحدات التدخل التشكيلي»... أو ميلاد «الأسلوب التونسي»
لكن بالمقابل أيضا ثمة تجربة جديرة بالاهتمام في كسر هذا الطوق , وحمل الفن إلى الناس , كسر مركزيته الموحشة في اتجاه لامركزية ممكنة قامت بها جماعة سمت نفسها ب «وحدات التدخل التشكيلي» (Brigade d'Intervention Plastique), وفي الاسم نفس مغامر ومقاوم لا يخلومن مخيلة وروح فوضوية , حلم بها الهاشمي غشّام فنان وشاعر وناقد وإعلامي, ونفّذها في أواخر الثمانينات, وواصلها مع مجموعة من الفنانين التشكيليين وتحولت حين اكتشف هذه التجربة فنان وأكاديمي أمريكي هودافيد بلاك David Black إلى ما يعرف الآن بالأسلوب التونسي ‘' Tunisian style ‘' , وقام بتنفيذها منذ العام الماضي بنفس الأسلوب في الولايات المتحدة الأمريكية, وتحولت إلى نسق بات يعرف بالأنقليزية تحت عنوان أوطريقة : The Tunisian – style Collaborative Painting, أي «الأسلوب التونسي في التّعاون التشكيلي», وفيه دلالة على حسّ بيداغوجي يستأهل الاهتمام.
تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التونسية انطلقت كما أشرنا في أواخر الثمانينات في مدينة المهدية على يد هاشمي غشام الذي جمع ثلة من الفنانين التشكيليين التونسيين في هذه المغامرة الفريدة من نوعها كالفنان الراحل عبد الرزاق الساحلي وخالد بن سليمان والحبيب بيده والراحل فوزي الشتيوي والأمين ساسي وعلي خوجة وإبراهيم العزابي وغيرهم, ليقوموا بانجاز أعمال تشكيلية على عين المكان في إطار ماراطون تشكيلي يمتد من 24 ساعة أو70 ساعة متواصلة يتم فيها إنجاز أعمال جماعية وأخرى فردية انطلاقا من موضوع أوتيمة موحدة, وهي عملية قائمة على الحرية في الأسلوب والأداء, ثم يتم في نهاية هذا الماراطون التجريبي الوصول إلى توحيد الأسلوب من خلال انجاز عمل تشكيلي ضخم تمحي فيه الفوارق الأسلوبية الفردية لتنصهر في أسلوب جديد لا يمضيه فنان واحد بل هوثمرة المجموعة المنخرطة في هذه المغامرة. ثم تواصلت هذه المغامرة طوال التسعينات مع انقطاعات متكرّرة , غير أن العشرية الأولى شهدت عودة هذه التجربة, حين عملت «وحدات التدخل التشكيلي» في توسيع هذا النشاط على مستوى اللامركزية , كثفت تدخلها لهذا النوع من المغامرة, فقامت بنشاط في مدينة دوز بمناسبة مهرجان الصحراء وفي مدينة تازركة وفي الحمامات وتونس بفضاء مسرح التياترو ونهج مرسيليا, وآخرها في العام الماضي في ساحة محمد علي بمناسبة العدوان على غزة, كما سبق لها وأن عرفت بهذه المغامرة مباشرة على أركاح التلفزة التونسية... وفي هذه الأثناء أيضا عدد هام من الفنانين التشكيليين الجدد لمغامرة التدخل كالراحل نجيب بلخوجة وحمادي بن سعد ومراد الزارعي وحليم قارة بيبان وألفة جغام, وبسمة الهداوي, ومحمد شلبي, وعمر باي, ومصطفى بن عطية, وزياد لصرم ونجاة غريسة وآخرهم من الشباب الصاعدين حمدي مزهود .
طريقة التدخل التشكيلي وأسلوبه
وفلسفة «وحدات التدخل التشكيلي» تقوم على رصد فكرة الخروج بالفن التشكيلي من عزلته التقليدية إلى فضاءات ومناسبات جديدة غير مألوفة, وتجاه متلق جديد لا يتم التفكير فيه بطريقة انتهازية هدفها تحويله إلى زبون, وإنما تحويل هذه العلاقة التقليدية إلى علاقة تفاعلية قائمة على الارتجال والمباغتة والمشاركة في لحظة إنجاز العمل الفني, واستكشاف المتلقي لأسرار المنجز الفني وهو يتشكل, إلى جانب تحويل علاقة الفنان التشكيلي بزميله من علاقة المزاحمة والغريم إلى علاقة المحاورة الأسلوبية والتفاعل الجمالي في اتجاه هدف موحد هوهدف وحدة الأسلوب والتبني المشترك للإنتاج الفني, كما تقوم تجربة وحدات التدخل التشكيلي « على التعامل مع المؤسسات والجمعيات الثقافية من منطلق المساهمة في تقاسم تكاليف الإنجاز الفني , ومساهمة الفنانين من خلال هذه المغامرة بأعمالهم لهذه الجمعيات لاستثمارها كقيم مادية يعاضدون بها مداخيلهم عندما تتمكن هذه الجمعية الثقافية من ترويج وبيع هذه الأعمال لفائدة نشاطهم الثقافي أو الاجتماعي. فعملية التدخل بالأساس متعددة الأهداف, تدخل جمالي وفني على مستوى تقريب الممارسة الفنية للجمهور الذي قد يجهل الميلاد الخاص للعمل الفني فتحصل بذلك المعرفة والتربية الذوقية, وتدخل ثقافي تنشيطي لأن مغامرة الرسم في حيز زماني موحد يتخذ شكل الماراطون يخلق حوله حراكا ثقافيا مهما لا يخلومن فائدة ومن تأكيد على فكرة المواطنة عبر المسلك الجمالي والثقافي, وهدف اجتماعي جمعياتي لأن مردود هذه العمليات قد يساهم بشكل رمزي في تقوية هذه الجمعية أوتلك في مواصلة نشاطها, وهدف ثقافي سياسي لأن مثل هذه العمليات تخرج الفن التشكيلي وممارسته من عزلته تجاه لامركزية تقطع من الأماكن الخاصة والمغلقة والنخبوية في التعامل الفني التشكيلي إلى جانب كون المنتج الفني الذي عادة ما يكون ضخما (يبلغ معدل اللوحة الفنية حجم 6م x 12م) لا يمكن الاحتفاظ به بالنسبة إلى مقتني الأعمال أو جامع أعمال فنية وإنما هي لوحات صالحة للعرض العمومي في الأماكن والفضاءات العمومية يراها الجميع ويتذوقها متلق عمومي.
«الأسلوب التونسي»
في نيويورك
في شهر فيفري الماضي عرضت ثلاث مجموعات من الرسامين والفنانين التشكيليين الأمريكيين التابعين لأكاديمية معهد ليم للفنون الجميلة Lyme Academy College of Fine Arts بنيويورك مجموعة من الأعمال الفنية أمام الجمهور وأمام طلبة الفنون الجميلة معرفين طريقة عملهم ب«الأسلوب التونسي», وقد قادهم إلى هذه التجربة الأكاديمي والفنان التشكيلي دافيد بلاك الذي سبق وأن تعرف العام الماضي على تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التي يديرها الهاشمي غشام, كما سبق له وأن ساهم مع الهاشمي غشام ومراد الزارعي وحمادي بن سعد في إنتاج أعمال تشكيلية في تونس في المرسم الخاص لفضاء بوعبانة... دافيد بلاك نقل أسلوب هذه المغامرة في الأوساط التشكيلية والجامعية, وقام بسلسلة من المحاضرات للتعريف بهذا الأسلوب التونسي, وقد بدأت فعلا هذه التجارب تظهر شيئا فشيئا كأسلوب بيداغوجي وفني في بعض الأوساط كما هوالحال في معاهد الفنون الجميلة في كارولينا الجنوبية وفيلادلفيا ونيويورك تحت إسم «الأسلوب التونسي»... ويبدوأن هذا الأسلوب الذي روج له دافيد بلاك في نيويورك قد حظي باهتمام عملي في بريطانيا وكندا وسويسرا , واهتمت به وسائل الإعلام الأمريكية, وقد عرفت مؤخرا قناة العربية من خلال وثائقي بانتشار هذا الأسلوب في نيويورك ...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.