زراعات كبرى: استعدادات حثيثة لتأمين موسم حصاد 2025 وإنجاحه في ظلّ بوادر صابة وفيرة    تونس تحتفل بمرور 30 سنة على اعتماد سياسة النهوض بالاستثمار الخارجي: من الأقطاب التكنولوجية إلى ريادة صناعية قارية    انطلاق سفرة "قطار الوعي" في مجال التنمية المستدامة من محطة برشلونة في إتجاه الجم    ملتقيات الدوري الماسي بالرباط : مشاركة منتظرة اليوم الاحد للثنائي التونسي محمد امين الجهيناوي واحمد الجزيري في سباق 3000م موانع    مع اقتراب الصيف.. 6أطعمة صيفية تضمن لك هضمًا صحيًا    نسبة امتلاء السدود تتجاوز اربعين بالمائة وقريبا استكمال انجاز جملة من السدود الكبرى    تونس: ارتفاع كبير في السيولة النقدية ...وقانون الشيكات من بين الأسباب    عاجل/ آخر مستجدات مفاوضات الزيادة في أجور القطاع الخاص..    ريال مدريد يعلن رسميًا تعيين تشابي ألونسو مدربًا جديدًا بعد رحيل أنشيلوتي    وزير الداخلية يشرف على إحياء الذكرى 67 لمعركة رمادة    قد تبدو بسيطة.. أخطاء عند غسل الأواني قد تسبب أضرارًا صحية كبيرة    تونس : أبرز الأحداث السياسية بين 19 و24 ماي 2025    تراجع غراسات كروم التحويل.. لقطاع كان يدرّ عائدات جبائية ب 50 مليون دينار لخزينة الدولة    بطولة هامبورغ للتنس: الإيطالي فلافيو كوبولي يتوج باللقب على حساب الروسي روبليف    كاس العالم لسلاح السابر.. المنتخب التونسي يخرج من الدور ثمن النهائي بخسارته امام نظيره الفرنسي 38-45    جندوبة: حجز كمية كبيرة من سماعات الغشّ في عملية أمنية    السعفة الذهبية ل"حادث بسيط".. حين تتكلم السياسة بلغة السينما    لماذا يحتفل اليوم بعيد الأمهات في تونس؟    مايا تواصل دعم قضايا المرأة بأغنية اجتماعية تنال تفاعلًا واسعًا    الستاغ تُشغّل خطًا كهربائيًا جديدًا بهذه المنطقة لتعزيز الربط مع المحطة الفولطاضوئية    لحظات من الرعب.. راكب مجنون يحاول قتل ركاب طائرة يابانية متجهة إلى أمريكا!    يوم مفتوح لفحص مرض الكحلي يوم السبت المقبل بمعهد الهادي الرايس لامراض العيون بباب سعدون    "كتائب القسام" تعلن عن تنفيذ عملية مركبة استهدفت قوات إسرائيلية في غزة    جوائز مهرجان كان السينمائي 2025.. تألق عالمي وبصمة عربية    وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي تنفذ عمليات تتنظيف لشاطئ سيدي محرز بجربة وشاطئ أوماريت بجرجيس    قبلي: المدرسة الابتدائية بجمنة تتحصل على جائزتين من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الامم المتحدة للطفولة    المزونة: أكثر من 1000 مواطن استفادوا من عيادات صحّية مجانية وشاملة    قافلة طبية للهوارية: 600 مستفيد من فحوصات قلب دقيقة و8 عمليات ناجحة لفائدة مرضى الكلى    إضراب في ''دحدح''....وهذه التفاصيل    البرلمان ينظر في مشروع قرض كويتي ب 70 مليون دينار لهذه الأسباب    بعد تأهّل البقلاوة: الترجي واتحاد بن قردان في صراع ناري على تذكرة النهائي!    جماهير ميلان تحتج ضد الملاك والإدارة بعد موسم مخيب للآمال    باريس سان جيرمان يتوج بكأس فرنسا استعدادا لنهائي رابطة الأبطال    جامعة قفصة تتحرّك: مؤسسات جديدة في الأفق ونهاية عهد الكراء تقترب    أمطار متفرقة بالمناطق الساحلية الشمالية صباح الاحد وارتفاع طفيف للحرارة    طقس الأحد: سُحب وأمطار خفيفة بهذه المناطق... والحرارة تواصل الارتفاع!    سرقة حمولة 23 شاحنة مساعدات إماراتية في غزة.. واتهامات لإسرائيل باختفائها    الفيلم الإيراني "مجرد حادث" يحصد السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي    جندوبة: الاحتفاظ بشخص وإحالة 3 آخرين بحالة تقديم من أجل تحوّز أجهزة الكترونية معدة للغش في الامتحانات    بعد أن أمهله المتظاهرون 24 ساعة... المنفي يعد بالتفاعل الايجابي مع الليبيّين    حريق بميناء الصيد البحري بجرزونة    أولا وأخيرا: «يطول ليلها وتعلف»    النادي الإفريقي يتوّج ببطولة كرة السلّة    أسرار النجمة الزهراء: مؤلف جديد لمركز الموسيقى العربية والمتوسطية    القيروان: اختيار 15 طالب دكتوراه للتنافس على تصفيات نهائي مسابقة "أطروحتي في 180 ثانية"    طقس الليلة    عاجل : النيابة العمومية تفتح تحقيقاً بعد وفاة شابة بطلق ناري في الكاف    عاجل/ حادثة مقتل فتاة بطلق ناري في الكاف: المساعد الأول لوكيل الجمهورية يكشف تفاصيل جديدة..    عملية ألمانيا: ارتفاع حصيلة المصابين ومنفذة الهجوم امرأة..#خبر_عاجل    زلزال بقوة 6ر4 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    جندوبة: تفكيك شبكة مختصة في ترويج سماعات الغش في الامتحانات    إيطاليا تُغيّر قانونا بشأن الحق في الحصول على الجنسية بموجب 'حق الدم'    رحيل أسطورة السينما الجزائرية محمد لخضر حمينة    الفكر المستقيل    أمراض تهدد حياتك عند ضعف حاستي السمع والشم.. ما هي؟!    موعد بدء إجازة عيد الأضحى في السعودية    29 يوم فقط تفصلنا على بداية فصل الصيف    دعاء يوم الجمعة 23 ماي 2025    









«وحدات التدخل التشكيلي» (BIP) التونسية تحظى باهتمام عالمي : الخروج بالفن التشكيلي التونسي من المراسم المظلمة
نشر في الشروق يوم 29 - 03 - 2010

ثمة مغامرات فنية في تونس طريفة وخارجة عن المألوف لا نكاد نأخذها بعين الاعتبار, بل قد نتحاشى الانتباه إليها , لأنها فقط اجترحت لنفسها طريقا غير معبد, ولأننا عادة ما نكون تحت سطوة أفكار مسبقة, أيديولوجيا ثقافية مهيمنة تثنينا عن التأمل فيها, وربما تحظى هذه التجارب باهتمام الآخر فيثمّنها, ويعطيها قيمتها التي تستحق , فنعيد الانتباه إليها , ونحاسب أنفسنا عن ضيق الأفق وعن السلبية المتأصلة في طواحيننا اليومية المأخوذة بسلطة الشيء المكرس والمتفق عليه سلفا والحال أننا نتظاهر باليقظة, لكنها في الحقيقة بيقظة مزيفة, فنعاود الكرة في تقزيم أنفسنا والشك في قدراتنا ... وكأن الآخر «الغيري» هوقدرنا يعيد إلينا معاني الأشياء ... هذا ما حدث مع تجربة تشكيلية تونسية تعرف ب«وحدات التدخل التشكيلي» ينتبه إليها فنان أمريكي من نيويورك ليقوم بترويجها مع حفظ حقوق أصحابها ...
عبد الحليم المسعودي
في عزلة الفن التشكيلي ونخبويته
لا شك أن الفن التشكيلي التونسي، بكل أشكاله ومظاهره لا يزال محبوسا في دوائره الخاصة به . وهي دوائر لها قوانينها الخاصة سواء كانت سوقا تشكيلية, أومراسم, أومعارض , أوأروقة , أومعايير باطنية مغلقة على أهلها وزبائنها وروادها ومريديها ووسطائها ومضارباتها الخاصة, وحرّاسها من نقاد وأكاديميين ومنظرين وخبراء في مجال الفن, ومروجين ومعدلي أسعاره ... ومتاهة الفن التشكيلي في تونس, هي أكثر من متاهة ... إنه عالم داخلي لا يقبل الشفافية ولا الإعلان المباشر , بالقدر الذي ينتعش فيه في كنف السريّة, والتكتلات, والمدارس, والعلاقات الخاصة والخاصة جدا ... متاهة لها قوانينها الخاصة, ولها مصالحها، ولها مواسمها ومتنفّذوها ومهمّشوها ... وكم نفاجأ كل مرّة برحيل فنان تشكيلي تونسي – وهم يرحلون الواحد تلوالآخر – دون أن يكون رحيله متبوعا بأسرار , وقصص وحكايات , ومسائل , هي جزء قليل من أسرار تلك المتاهة المدوّخة التي تجعل الفن بعيدا عن الناس ومحصورا في دوائره النّخبوية المغلقة ... وقد تكون مضامين هذا الفنان أوذاك محتضنة لهموم الناس ومشاغلهم وأحلامهم، غير أنه من يملك هذه الأعمال؟. من يملك أعمال عمّار فرحات, أوعمارة دبّش, أوالحبيب بوعبانة كفنانين تونسيين كرسوا حياتهم لتصوير هموم الناس ونقلها جماليا إلى أعمال خالدة؟.
وبالمقابل ينأى الفن التشكيلي عن الناس, وعن إمكاناتهم... هكذا يمارس الفن في عزلته وظلمته وأسراره. ويظل تشريك الناس في لحظة الإبداع فكرة طوباوية, بل خيالية محصنة بفكرة مقدسة , هي سر الفن وطقوسه .
«وحدات التدخل التشكيلي»... أو ميلاد «الأسلوب التونسي»
لكن بالمقابل أيضا ثمة تجربة جديرة بالاهتمام في كسر هذا الطوق , وحمل الفن إلى الناس , كسر مركزيته الموحشة في اتجاه لامركزية ممكنة قامت بها جماعة سمت نفسها ب «وحدات التدخل التشكيلي» (Brigade d'Intervention Plastique), وفي الاسم نفس مغامر ومقاوم لا يخلومن مخيلة وروح فوضوية , حلم بها الهاشمي غشّام فنان وشاعر وناقد وإعلامي, ونفّذها في أواخر الثمانينات, وواصلها مع مجموعة من الفنانين التشكيليين وتحولت حين اكتشف هذه التجربة فنان وأكاديمي أمريكي هودافيد بلاك David Black إلى ما يعرف الآن بالأسلوب التونسي ‘' Tunisian style ‘' , وقام بتنفيذها منذ العام الماضي بنفس الأسلوب في الولايات المتحدة الأمريكية, وتحولت إلى نسق بات يعرف بالأنقليزية تحت عنوان أوطريقة : The Tunisian – style Collaborative Painting, أي «الأسلوب التونسي في التّعاون التشكيلي», وفيه دلالة على حسّ بيداغوجي يستأهل الاهتمام.
تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التونسية انطلقت كما أشرنا في أواخر الثمانينات في مدينة المهدية على يد هاشمي غشام الذي جمع ثلة من الفنانين التشكيليين التونسيين في هذه المغامرة الفريدة من نوعها كالفنان الراحل عبد الرزاق الساحلي وخالد بن سليمان والحبيب بيده والراحل فوزي الشتيوي والأمين ساسي وعلي خوجة وإبراهيم العزابي وغيرهم, ليقوموا بانجاز أعمال تشكيلية على عين المكان في إطار ماراطون تشكيلي يمتد من 24 ساعة أو70 ساعة متواصلة يتم فيها إنجاز أعمال جماعية وأخرى فردية انطلاقا من موضوع أوتيمة موحدة, وهي عملية قائمة على الحرية في الأسلوب والأداء, ثم يتم في نهاية هذا الماراطون التجريبي الوصول إلى توحيد الأسلوب من خلال انجاز عمل تشكيلي ضخم تمحي فيه الفوارق الأسلوبية الفردية لتنصهر في أسلوب جديد لا يمضيه فنان واحد بل هوثمرة المجموعة المنخرطة في هذه المغامرة. ثم تواصلت هذه المغامرة طوال التسعينات مع انقطاعات متكرّرة , غير أن العشرية الأولى شهدت عودة هذه التجربة, حين عملت «وحدات التدخل التشكيلي» في توسيع هذا النشاط على مستوى اللامركزية , كثفت تدخلها لهذا النوع من المغامرة, فقامت بنشاط في مدينة دوز بمناسبة مهرجان الصحراء وفي مدينة تازركة وفي الحمامات وتونس بفضاء مسرح التياترو ونهج مرسيليا, وآخرها في العام الماضي في ساحة محمد علي بمناسبة العدوان على غزة, كما سبق لها وأن عرفت بهذه المغامرة مباشرة على أركاح التلفزة التونسية... وفي هذه الأثناء أيضا عدد هام من الفنانين التشكيليين الجدد لمغامرة التدخل كالراحل نجيب بلخوجة وحمادي بن سعد ومراد الزارعي وحليم قارة بيبان وألفة جغام, وبسمة الهداوي, ومحمد شلبي, وعمر باي, ومصطفى بن عطية, وزياد لصرم ونجاة غريسة وآخرهم من الشباب الصاعدين حمدي مزهود .
طريقة التدخل التشكيلي وأسلوبه
وفلسفة «وحدات التدخل التشكيلي» تقوم على رصد فكرة الخروج بالفن التشكيلي من عزلته التقليدية إلى فضاءات ومناسبات جديدة غير مألوفة, وتجاه متلق جديد لا يتم التفكير فيه بطريقة انتهازية هدفها تحويله إلى زبون, وإنما تحويل هذه العلاقة التقليدية إلى علاقة تفاعلية قائمة على الارتجال والمباغتة والمشاركة في لحظة إنجاز العمل الفني, واستكشاف المتلقي لأسرار المنجز الفني وهو يتشكل, إلى جانب تحويل علاقة الفنان التشكيلي بزميله من علاقة المزاحمة والغريم إلى علاقة المحاورة الأسلوبية والتفاعل الجمالي في اتجاه هدف موحد هوهدف وحدة الأسلوب والتبني المشترك للإنتاج الفني, كما تقوم تجربة وحدات التدخل التشكيلي « على التعامل مع المؤسسات والجمعيات الثقافية من منطلق المساهمة في تقاسم تكاليف الإنجاز الفني , ومساهمة الفنانين من خلال هذه المغامرة بأعمالهم لهذه الجمعيات لاستثمارها كقيم مادية يعاضدون بها مداخيلهم عندما تتمكن هذه الجمعية الثقافية من ترويج وبيع هذه الأعمال لفائدة نشاطهم الثقافي أو الاجتماعي. فعملية التدخل بالأساس متعددة الأهداف, تدخل جمالي وفني على مستوى تقريب الممارسة الفنية للجمهور الذي قد يجهل الميلاد الخاص للعمل الفني فتحصل بذلك المعرفة والتربية الذوقية, وتدخل ثقافي تنشيطي لأن مغامرة الرسم في حيز زماني موحد يتخذ شكل الماراطون يخلق حوله حراكا ثقافيا مهما لا يخلومن فائدة ومن تأكيد على فكرة المواطنة عبر المسلك الجمالي والثقافي, وهدف اجتماعي جمعياتي لأن مردود هذه العمليات قد يساهم بشكل رمزي في تقوية هذه الجمعية أوتلك في مواصلة نشاطها, وهدف ثقافي سياسي لأن مثل هذه العمليات تخرج الفن التشكيلي وممارسته من عزلته تجاه لامركزية تقطع من الأماكن الخاصة والمغلقة والنخبوية في التعامل الفني التشكيلي إلى جانب كون المنتج الفني الذي عادة ما يكون ضخما (يبلغ معدل اللوحة الفنية حجم 6م x 12م) لا يمكن الاحتفاظ به بالنسبة إلى مقتني الأعمال أو جامع أعمال فنية وإنما هي لوحات صالحة للعرض العمومي في الأماكن والفضاءات العمومية يراها الجميع ويتذوقها متلق عمومي.
«الأسلوب التونسي»
في نيويورك
في شهر فيفري الماضي عرضت ثلاث مجموعات من الرسامين والفنانين التشكيليين الأمريكيين التابعين لأكاديمية معهد ليم للفنون الجميلة Lyme Academy College of Fine Arts بنيويورك مجموعة من الأعمال الفنية أمام الجمهور وأمام طلبة الفنون الجميلة معرفين طريقة عملهم ب«الأسلوب التونسي», وقد قادهم إلى هذه التجربة الأكاديمي والفنان التشكيلي دافيد بلاك الذي سبق وأن تعرف العام الماضي على تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التي يديرها الهاشمي غشام, كما سبق له وأن ساهم مع الهاشمي غشام ومراد الزارعي وحمادي بن سعد في إنتاج أعمال تشكيلية في تونس في المرسم الخاص لفضاء بوعبانة... دافيد بلاك نقل أسلوب هذه المغامرة في الأوساط التشكيلية والجامعية, وقام بسلسلة من المحاضرات للتعريف بهذا الأسلوب التونسي, وقد بدأت فعلا هذه التجارب تظهر شيئا فشيئا كأسلوب بيداغوجي وفني في بعض الأوساط كما هوالحال في معاهد الفنون الجميلة في كارولينا الجنوبية وفيلادلفيا ونيويورك تحت إسم «الأسلوب التونسي»... ويبدوأن هذا الأسلوب الذي روج له دافيد بلاك في نيويورك قد حظي باهتمام عملي في بريطانيا وكندا وسويسرا , واهتمت به وسائل الإعلام الأمريكية, وقد عرفت مؤخرا قناة العربية من خلال وثائقي بانتشار هذا الأسلوب في نيويورك ...
في عزلة الفن التشكيلي ونخبويته
لا شك أن الفن التشكيلي التونسي، بكل أشكاله ومظاهره لا يزال محبوسا في دوائره الخاصة به . وهي دوائر لها قوانينها الخاصة سواء كانت سوقا تشكيلية, أومراسم, أومعارض , أوأروقة , أومعايير باطنية مغلقة على أهلها وزبائنها وروادها ومريديها ووسطائها ومضارباتها الخاصة, وحرّاسها من نقاد وأكاديميين ومنظرين وخبراء في مجال الفن, ومروجين ومعدلي أسعاره ... ومتاهة الفن التشكيلي في تونس, هي أكثر من متاهة ... إنه عالم داخلي لا يقبل الشفافية ولا الإعلان المباشر , بالقدر الذي ينتعش فيه في كنف السريّة, والتكتلات, والمدارس, والعلاقات الخاصة والخاصة جدا ... متاهة لها قوانينها الخاصة, ولها مصالحها، ولها مواسمها ومتنفّذوها ومهمّشوها ... وكم نفاجأ كل مرّة برحيل فنان تشكيلي تونسي – وهم يرحلون الواحد تلوالآخر – دون أن يكون رحيله متبوعا بأسرار , وقصص وحكايات , ومسائل , هي جزء قليل من أسرار تلك المتاهة المدوّخة التي تجعل الفن بعيدا عن الناس ومحصورا في دوائره النّخبوية المغلقة ... وقد تكون مضامين هذا الفنان أوذاك محتضنة لهموم الناس ومشاغلهم وأحلامهم، غير أنه من يملك هذه الأعمال؟. من يملك أعمال عمّار فرحات, أوعمارة دبّش, أوالحبيب بوعبانة كفنانين تونسيين كرسوا حياتهم لتصوير هموم الناس ونقلها جماليا إلى أعمال خالدة؟.
وبالمقابل ينأى الفن التشكيلي عن الناس, وعن إمكاناتهم... هكذا يمارس الفن في عزلته وظلمته وأسراره. ويظل تشريك الناس في لحظة الإبداع فكرة طوباوية, بل خيالية محصنة بفكرة مقدسة , هي سر الفن وطقوسه .
«وحدات التدخل التشكيلي»... أو ميلاد «الأسلوب التونسي»
لكن بالمقابل أيضا ثمة تجربة جديرة بالاهتمام في كسر هذا الطوق , وحمل الفن إلى الناس , كسر مركزيته الموحشة في اتجاه لامركزية ممكنة قامت بها جماعة سمت نفسها ب «وحدات التدخل التشكيلي» (Brigade d'Intervention Plastique), وفي الاسم نفس مغامر ومقاوم لا يخلومن مخيلة وروح فوضوية , حلم بها الهاشمي غشّام فنان وشاعر وناقد وإعلامي, ونفّذها في أواخر الثمانينات, وواصلها مع مجموعة من الفنانين التشكيليين وتحولت حين اكتشف هذه التجربة فنان وأكاديمي أمريكي هودافيد بلاك David Black إلى ما يعرف الآن بالأسلوب التونسي ‘' Tunisian style ‘' , وقام بتنفيذها منذ العام الماضي بنفس الأسلوب في الولايات المتحدة الأمريكية, وتحولت إلى نسق بات يعرف بالأنقليزية تحت عنوان أوطريقة : The Tunisian – style Collaborative Painting, أي «الأسلوب التونسي في التّعاون التشكيلي», وفيه دلالة على حسّ بيداغوجي يستأهل الاهتمام.
تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التونسية انطلقت كما أشرنا في أواخر الثمانينات في مدينة المهدية على يد هاشمي غشام الذي جمع ثلة من الفنانين التشكيليين التونسيين في هذه المغامرة الفريدة من نوعها كالفنان الراحل عبد الرزاق الساحلي وخالد بن سليمان والحبيب بيده والراحل فوزي الشتيوي والأمين ساسي وعلي خوجة وإبراهيم العزابي وغيرهم, ليقوموا بانجاز أعمال تشكيلية على عين المكان في إطار ماراطون تشكيلي يمتد من 24 ساعة أو70 ساعة متواصلة يتم فيها إنجاز أعمال جماعية وأخرى فردية انطلاقا من موضوع أوتيمة موحدة, وهي عملية قائمة على الحرية في الأسلوب والأداء, ثم يتم في نهاية هذا الماراطون التجريبي الوصول إلى توحيد الأسلوب من خلال انجاز عمل تشكيلي ضخم تمحي فيه الفوارق الأسلوبية الفردية لتنصهر في أسلوب جديد لا يمضيه فنان واحد بل هوثمرة المجموعة المنخرطة في هذه المغامرة. ثم تواصلت هذه المغامرة طوال التسعينات مع انقطاعات متكرّرة , غير أن العشرية الأولى شهدت عودة هذه التجربة, حين عملت «وحدات التدخل التشكيلي» في توسيع هذا النشاط على مستوى اللامركزية , كثفت تدخلها لهذا النوع من المغامرة, فقامت بنشاط في مدينة دوز بمناسبة مهرجان الصحراء وفي مدينة تازركة وفي الحمامات وتونس بفضاء مسرح التياترو ونهج مرسيليا, وآخرها في العام الماضي في ساحة محمد علي بمناسبة العدوان على غزة, كما سبق لها وأن عرفت بهذه المغامرة مباشرة على أركاح التلفزة التونسية... وفي هذه الأثناء أيضا عدد هام من الفنانين التشكيليين الجدد لمغامرة التدخل كالراحل نجيب بلخوجة وحمادي بن سعد ومراد الزارعي وحليم قارة بيبان وألفة جغام, وبسمة الهداوي, ومحمد شلبي, وعمر باي, ومصطفى بن عطية, وزياد لصرم ونجاة غريسة وآخرهم من الشباب الصاعدين حمدي مزهود .
طريقة التدخل التشكيلي وأسلوبه
وفلسفة «وحدات التدخل التشكيلي» تقوم على رصد فكرة الخروج بالفن التشكيلي من عزلته التقليدية إلى فضاءات ومناسبات جديدة غير مألوفة, وتجاه متلق جديد لا يتم التفكير فيه بطريقة انتهازية هدفها تحويله إلى زبون, وإنما تحويل هذه العلاقة التقليدية إلى علاقة تفاعلية قائمة على الارتجال والمباغتة والمشاركة في لحظة إنجاز العمل الفني, واستكشاف المتلقي لأسرار المنجز الفني وهو يتشكل, إلى جانب تحويل علاقة الفنان التشكيلي بزميله من علاقة المزاحمة والغريم إلى علاقة المحاورة الأسلوبية والتفاعل الجمالي في اتجاه هدف موحد هوهدف وحدة الأسلوب والتبني المشترك للإنتاج الفني, كما تقوم تجربة وحدات التدخل التشكيلي « على التعامل مع المؤسسات والجمعيات الثقافية من منطلق المساهمة في تقاسم تكاليف الإنجاز الفني , ومساهمة الفنانين من خلال هذه المغامرة بأعمالهم لهذه الجمعيات لاستثمارها كقيم مادية يعاضدون بها مداخيلهم عندما تتمكن هذه الجمعية الثقافية من ترويج وبيع هذه الأعمال لفائدة نشاطهم الثقافي أو الاجتماعي. فعملية التدخل بالأساس متعددة الأهداف, تدخل جمالي وفني على مستوى تقريب الممارسة الفنية للجمهور الذي قد يجهل الميلاد الخاص للعمل الفني فتحصل بذلك المعرفة والتربية الذوقية, وتدخل ثقافي تنشيطي لأن مغامرة الرسم في حيز زماني موحد يتخذ شكل الماراطون يخلق حوله حراكا ثقافيا مهما لا يخلومن فائدة ومن تأكيد على فكرة المواطنة عبر المسلك الجمالي والثقافي, وهدف اجتماعي جمعياتي لأن مردود هذه العمليات قد يساهم بشكل رمزي في تقوية هذه الجمعية أوتلك في مواصلة نشاطها, وهدف ثقافي سياسي لأن مثل هذه العمليات تخرج الفن التشكيلي وممارسته من عزلته تجاه لامركزية تقطع من الأماكن الخاصة والمغلقة والنخبوية في التعامل الفني التشكيلي إلى جانب كون المنتج الفني الذي عادة ما يكون ضخما (يبلغ معدل اللوحة الفنية حجم 6م x 12م) لا يمكن الاحتفاظ به بالنسبة إلى مقتني الأعمال أو جامع أعمال فنية وإنما هي لوحات صالحة للعرض العمومي في الأماكن والفضاءات العمومية يراها الجميع ويتذوقها متلق عمومي.
«الأسلوب التونسي»
في نيويورك
في شهر فيفري الماضي عرضت ثلاث مجموعات من الرسامين والفنانين التشكيليين الأمريكيين التابعين لأكاديمية معهد ليم للفنون الجميلة Lyme Academy College of Fine Arts بنيويورك مجموعة من الأعمال الفنية أمام الجمهور وأمام طلبة الفنون الجميلة معرفين طريقة عملهم ب«الأسلوب التونسي», وقد قادهم إلى هذه التجربة الأكاديمي والفنان التشكيلي دافيد بلاك الذي سبق وأن تعرف العام الماضي على تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التي يديرها الهاشمي غشام, كما سبق له وأن ساهم مع الهاشمي غشام ومراد الزارعي وحمادي بن سعد في إنتاج أعمال تشكيلية في تونس في المرسم الخاص لفضاء بوعبانة... دافيد بلاك نقل أسلوب هذه المغامرة في الأوساط التشكيلية والجامعية, وقام بسلسلة من المحاضرات للتعريف بهذا الأسلوب التونسي, وقد بدأت فعلا هذه التجارب تظهر شيئا فشيئا كأسلوب بيداغوجي وفني في بعض الأوساط كما هوالحال في معاهد الفنون الجميلة في كارولينا الجنوبية وفيلادلفيا ونيويورك تحت إسم «الأسلوب التونسي»... ويبدوأن هذا الأسلوب الذي روج له دافيد بلاك في نيويورك قد حظي باهتمام عملي في بريطانيا وكندا وسويسرا , واهتمت به وسائل الإعلام الأمريكية, وقد عرفت مؤخرا قناة العربية من خلال وثائقي بانتشار هذا الأسلوب في نيويورك ...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.