حوار وإعداد فاطمة بن عبد اللّه الكرّاي وصف صاحب المذكرات، التحقيق الذي مثل الأساس في إحالته على المحاكمة بأنه «تحقيق فضيحة» لا يملك أساسا ولا سندا قانونيا، يمكن أن يتجانس مع المحاكمة التي تأتي بعد مدة يقضيها «سي أحمد» بن صالح في السجن. في حلقة الأمس، كشف لنا صاحب المذكرات النقاب عن أن رئيس الحراس محمد القابسي، كان ودودا معه، وطمأنه أنه، ما دام رئيس الحراس هنا، فإن «سي أحمد» ليس له أن يقلق من أي شيء فقد كان «القابسي» الذي بقي بن صالح يشكر له مواقفه، كان الكاتب العام لحراس السجون تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان بن صالح (56) كاتبا عاما له. يواصل «سي أحمد» قوله تجاه الوضع في السجن، فترة ما بين التحقيق والمحاكمة، بالقول: « (...) وبدأ الكفاح في السجن.... رفضت الطعام... كنت رافضا بشدة طعام السجن.. تماما كما رفضت لباس السجن.. كنت أتوقع أشياء أخرى في الطعام..» قلت له: أتقصد قتلك مثلا عبر الأكل؟ قال بدون تردد: «نعم... ثم اني لا أطيق أن آكل أي شيء في أي مكان... بطبعي أخاف من أدوات الطهو عند الناس الذين لا أعرفهم وليسوا من عائلتي... وقع اضطراب في السجن، وصل حد الأزمة بسبب موقفي هذا... وعندما رأت ادارة السجن أن تستقدم لي طبيبا وكان الدكتور «بن ساسي» اخصائي في الجهاز الهضمي والمعدة بالخصوص... دخل علي الدكتور الذي كنت أعرفه من قبل.... جلس الى جانبي على الأرض... حيث كان سريري الذي أنام عليه، عبارة عن حشية منبسطة على الأرض محشوة تبنا... جلس الدكتور الى جانبي، وبدأ يقنعني بضرورة أن أتناول الطعام معللا ذلك بأن صحتي لا تحتمل هذا العزوف عن الأكل... كان الطبيب جاري هنا في «رادس» (بالضاحية الجنوبية بتونس العاصمة)، فعندما ينصحني بالأكل يرفع صوته بالقول: «يا سي أحمد» يجب أن تأكل.. فكر في صحتك»... ثم ما يلبث أن يخفت صوته ويهمس في أذني بالقول «تمسك بموقفك» (كان يقولها بالعامية: «شد صحيح») ثم يرفع صوته ثانية... وهكذا دواليك، فقد استمر برهة من الزمن هكذا بين طالب مني علنا بأن آكل، وموشوشا في أذني: «شد صحيح»... تواصل الأمر، يقول (سي أحمد، يوما ونصفا ثم أذعنت ادارة السجن وأصبحت «القفة» تأتي من المنزل الى زنزانته في السجن... وهنا عرجت بالسؤال، على ما كان ذكره «سي أحمد» آنفا، من أن الدكتور «بن ساسي» كان جارا ل «سي أحمد» في رادس، قال «أعرفه، وهو جاري، ولكن أذكر له طرفة وقعت معه كطبيب... فقد زاره مريض يعاني من أمراض في المعدة، فوصف الطبيب الدواء لمريضه، ومنعه بالمناسبة من عدة أنواع من الأكل مثل المقليات والشحوم... الى آخره... ولما خرج المريض، واتجه (في باب سويقة كانت عيادته) الى أول صيدلية لكي يشتري الأدوية التي وصفها له الطبيب، ولما كان المريض راجعا، في باب سويقة، وهو يمر على محل لبيع أكلة «الكفتاجي» الشعبية، رمق طبيبه الذي كان يوصيه، بعدم تناول مثل هذه المأكولات وهو يجلس في المطعم يتناول منها نصيبا، ولما تقابلت النظرات الطبيب والمريض، قال الأول للثاني وهو يناديه ليجلس بجانبه: اجلس وتناول ما تريد.. على أنك أتيتني غدا لأكشف عنك! كان الأخ بن ساسي، صاحب روح مرحة، لذلك لم أستغرب مما فعله معي. بعد هذا القوس، الذي فتحناه، حول هذه الشخصية التي ظل «سي أحمد» مدينا لها، لأنه لم يتناول طعاما واحدا من السجن، وأصبحت «قفة» الأكل تأتيه مباشرة من «سي القابسي» أي تحت رقابته الخاصة الى أن يتناولها صاحبها، سألت «سي أحمد» بن صالح كم دام اشراف «القابسي» على قفة الأكل؟ فقال: «دامت ثلاث سنوات... كان يشرف عليها بدقة حتى تصل بين يدي خشية أن يدس فيها شيء، وهي في طريقها من أحد أفراد عائلتي إلي... تنهد وقال: رحم الله محمد القابسي فقد كان اخلاصه غير عادي...» اختارت الدولة، حسب ما رواه «سي أحمد» في هذه الحلقة ستة حراس، و «قد نشبت علاقة بيني وبينهم وبدأوا يحكون معي، ويقصون علي افتراءات من سجنني، فقد كانوا (المسؤولون) يقولون لهم في اجتماعات الشعب وفي الاجتماعات الشعبية هنا وهناك، أشياء مهولة من الكذب والتلفيق.. وكانوا يوهمون الناس بأن بن صالح «بيه وعليه» وأنه سرق كذا.... وكذا مليون... وكان الرقم يقفز من العشرين الى الثلاثين... كل ومساحة خياله من الكذب والبهتان».... وهل كان هؤلاء الحراس، يعتقدون فعلا في ما استمعوا اليه؟ عن هذا السؤال يقول «سي أحمد»: طبعا... لم تنطل عليهم الحيلة... فقد جاءت المحاكمة لتكشف بأن كل ما سمعوه لم يحاكم على أساسه بن صالح... فماذا كان في المحاكمة يا ترى؟ هذا ما سنراه لاحقا ان شاء الله...