يوما بعد يوم تتصاعد الضجة التي تثيرها الدوائر الغربية حول الكنيسة الكاثوليكية واليوم تخرج الصحافة الاوروبية بمزيد من العناوين التي تكشف أكثر فأكثر راس جبل الجليد الضخم المتكون من صراعات ظاهرها ديني او مذهبي ومضمونها سياسي، كما كانت وما تزال جميع الصراعات الدينية والمذهبية في التاريخ . اليوم تتضارب المواقف كما تتضارب الاسماء الكبيرة التي تطلق تصريحات وتصريحات مضادة، ومن تعتذر عنها. فان يسارع روان ويليامس اسقف كانتربري الانجليكاني الى التصريح يوم السبت الفائت بان فقدان مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية لكل مصداقيتها لا يشكل ضربة للكنيسة وانما لايرلندا، انما هو موقف سياسي في جوهره، وان يضطر بعدها الى الاعتذار للكاثوليك (وليس للايرلنديين) انما هو كذلك أيضا. وان يقول الاسقف رانيرو كانتا لاميسا الراهب الكاثوليكي الذي يحتل، منذ الثمانينات، موقع واعظ يلقي الموعظة في الفاتيكان عن البابا خلال ايام الصيام، بان «توظيف قضية الاعتداءات الجنسية هو من باب تعميم الستريو تايب، والعبور من الخطإ الفردي إلى الخطإ الجماعي مما يذكر بالمظاهر المخجلة للاسامية». انما هو من باب الجدل السياسي أيضا. كذلك يندرج في باب السياسي المموه ما صرح به الاسقف الفرنسي البير رويه، اسقف بواتيه من انتقادات واضحة لقداسة البابا واصفا اياه بانه «منظر اكثر منه تاريخي» وبأنه «ظل استاذا يعتقد ان مجرد طرح المشكلة يكفي لحلها، في حين ان الحياة اكثر تعقيدا من ذلك» كذلك انتقد رويه ردات فعل الكنيسة على الرسوم الكاريكاتورية التي طالتها بعد اثارة قضية التحرشات الجنسية، واصفا ردات الفعل هذه بانها تشبه ردة فعل المسلمين على الرسوم المسيئة للرسول. تصريحات اسقف كانتربري تخرج الى النور الصراع الخفي الذي يكمن في عمق العلاقة بين الثقافة الانكلو ساكسونية البريطانية الأمريكية والثقافة الكاثوليكية، ليس على ساحة ايرلندا فحسب، وانما على مساحة القارة الأمريكية. وهذا ما حلله منظر النيوليبراليين وصراع الحضارات صموئيل هنتنغتون في كتابه «من نحن؟» عندما اعتبر ان مقومات الهوية الأمريكية: ثلاث : العرق الابيض، المذهب البروتستانتي والثقافة الانقلو ساكسونية . وعليه فان الخطر الاساسي الذي يتهددها يكمن في أمريكا الجنوبية الخلاسية، اللاتينية، الاسبانوفونية. اما العداء للاسلام، فهو بنظره وسيلة لتامين العدو البديل عن الاتحاد السوفياتي، هذا العدو الذي يشكل شرطا ضروريا لتلاحم الهوية الأمريكية الشمالية في وجه الخطر الحقيقي. اضافة الى ما أمنه جو هذا العداء من فرص لهيمنة الامبراطورية على الشرق الاوسط وموقعه وثرواته. هذا العداء الانقلو ساكسوني الكاثوليكي، تعرض لمس كهربائي عندما ثارت ثائرة بعض اتباع البروتستانتية على سماح الاساقفة بزواج المثليين، وقبول الكنيسة الانكليكانية بمجاهرة الاسقف الأمريكي جين روبنسون بشذوذه الجنسي، وكذلك على تزايد عدد النساء الاساقفة في الولاياتالمتحدة. وعندها بادر البابا بنوا السادس الى إصدار تشريع كنسي يسهل استيعاب هؤلاء المحتجين في الكنيسة الكاثوليكية. اما التصريحات الثانية للراهب كانتا لاميسا فيعيد الى الطاولة مرة اخرى العلاقة الشائكة بين سدنة الهولوكوست والبابوية. مما يعكس صراعا مزدوجا بين معسكرين داخل الفاتيكان: الأول خط يعمل على تهويد الكنيسة وتركيب عقدة ذنب ازاء مسالة الهولوكوست والثاني خط يقاتل لاجل الحفاظ على النقاء المسيحي للكثلكة والى انتهاج مقاربة علمية تاريخية وواقعية مراجعة لهذه المسالة، والى هذا الخط الثاني ينتمي كانتا لاميسا الذي يحمل دكتوراه في اللاهوت ويقدم برنامجا تلفزيونيا بعنوان «على صورته» في الراي أونو. وما يهمنا في الأمر ان نجاح التهويد وتركيب عقدة الذنب هما الوسيلة المعروفة لتركيز هيمنة اللوبيهات على الحكومات والشعوب الاوروبية وهو ما يراد تطبيقه على الكنيسة، وصولا الى تقبلها لما يحصل في فلسطين، واحجامها عن أي انتقاد لاسرائيل أو أي تصد لعملية تهويد الكثلكة. اما التصريح الثالث لرويه، فلا يخرج عن كونه ترجمة لهذا الصراع نفسه الذي تشكل فرنسا أهم ساحاته بين اتباع الكاردينال الراحل جان ماري لوستيجيه، اليهودي الذي اعتنق المسيحية في العشرينات من عمره، وظل حتى نهاية حياته ناشطا دون كلل على تهويد الكنيسة البابوية دون ان يتمكن من اطفاء المعارضة التي قاومت خطه باصرار وعناد. والى مدرسته ينتمي البير رويه. ملامح معقدة لا بد من التمحيص فيها بدقة، ومتابعة لأن انعكاساتها السياسية لا تطال أحدا كما تطالنا نحن في المشرق العربي وفي صميم قضيتنا المركزية.