حلقات يكتبها: عبد الرؤوف المقدمي حكى احد الرواة قال: عشق فتى عندنا جارية فلم يزل يزداد ولعله بها حتى ذهب عقله. فكان حينا يسكن الى الناس، وحينا يسكن الخرابات ويتوحّش. فمررت به يوما في خربة يحثو التراب على وجهه. فسألته عن حاله فأنشد: يتمنى حبّها وأضناني وفي بحار الهموم ألقاني كيف احتيالي وليس لي جلد في دفع ما بي وكشف احزاني. ففارقته ومضيت. وبعد مدة رأيته يتمرغ على الارض فلما ابصرني قال: يا عمي انا الليلة ميّت. فدعوت له ومضيت فلما اصبحت، غدوت عليه فإذا هو ميّت. وحكى آخر قال: مررت انا وصديق لي بدير «هرقل» فقال لي هل لك ان تدخل فتنظر الى مافيه من ملاح المجانين. فدخلنا واذا بشاب نظيف الثياب، حسن الهيئة جميل المنظر، فحين ابصرنا قال: مرحبا بالوفد من اين اقبلتم؟ فقلنا جعلنا الله فداك. اقبلنا من كذا. ثم قلنا له ما اجلسك ههنا وانت لغير هذا المكان اهل. فتنفس وصوّب طرفه الينا وأنشد: الله يعلم انني كمد لا استطيع أبثّ ما أجد روحان لي، روح تضمّها بلد وأخرى حازها بلد ثم سألهما الشاب عن اهل حبيبته وعنها فقالا ماتوا. وكان الشاب مربوطا بسلسلة في عنقه، فجذبها جذبة، ازهقت روحه. وجاء في احدى كتب التراث: حكى الإبلي عن «الفُويْرك» وهو من المشاهير في عقلاء المجانين. قال: رأيته والصبيان يرمونه بالحجارة. فلما رآني قال: اما ترى ما يصنع هؤلاء بي مع ما انا فيه من العشق والجنون وأنشد: جنون وعشق ذا يروح وذا يغدو فهذا له حدّ وهذا له حد هما استوطنا جسمي وقلبي كليهما فلم يبق لي قلب صحيح ولا جلد قد سكنا تحت الحشايا وتحالفا على مهجتي ان لا يفارقها الجهد وقال يوما وقد لقيته وفي عنقه حبل يقودونه، يا أبا بكر بماذا يعذّب الله عباده. قلت: بنار جهنم. فقال صفها، فقلت له ومن الذي يقدر ان يصف عذاب الله. فقال انا والله في عذاب اعظم منه. وكشف عن جسم نحيل وعظام بالية وأنشد: انظر الى ما صيّر الحب لم يبق لي جسم ولا قلب وسأله احدهم، متى حدث بك العشق؟ قال: من زمان طويل ولكن كنت اكتمه حتى غلب. فقال أنشدني ما قلت فيه. فأجاب: كتمت جنوني وهو في القلب كامن فلمّا استوى والحب اعلنه الحب وخلى والجسم الصحيح يذيبه فلما أجاب الجسم ذلّ له القلب فجسمي نحيل للجنون وللهوى فهذا له نهب وهذا له نهب وورد في منازل «الاحباب» كان في بني عذري فتى ظريف يهوى محادثة النساء، فعلق جارية فأضنته حتى لزم الوساد، وسئلت في امره فامتنعت، حتى اذا بلغ الموت جاءته فحين رآها أنشد: أريتك ان مرّت عليك جنازتي تمرّ على أيدي طوال وشرّع اما تتبعين النعش حتى تسلّمي على رمس ميّت في الحفيرة مودع فحلفت انها لم تعلم انه بلغ به الحب، هذا الحال وأخذت تستعطفه فأجابها: اتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل ثم اغشي عليه، وانكبت تقبّله، فإذا هو ميّت فلم تمكث بعده الا قليلا. وحكى ابن الجوزي ان رجلا احب نصرانية وأخذ هواها منه حتى ازال عقله فحمل الى البيمارستان، فأقام به مدة. وكان له صديق يتعاهده. فقال له يوما وقد اشرف على التلف قد ايست من ملاقاة فلانة في الدنيا. وأخاف ان لا ألقاها في الآخرة ان متّ مسلما. ثم تنصّر ومات. فخرج صاحبه من بعده فوجدها عليلة وهي تقول ايست من فلان في الدنيا فأنا اسلم لألقاه في الآخرة. ثم اسلمت وماتت. وأحبّ فتى ابنة عمه وكان اسمها «سعدى» فمنعه ابوه ان يتزوجها، وأبى الغلام الا هي، فلما أيس أبوها زوّجها من رجل آخر، فاشتدّ وجد الغلام ولقيها يوما فأنشد: لعذري يا سعدى لطال تأيّمي ومعصيتي شيخي فيك كلامها فأجابته: حبيبي لا تعجل لتفهم حجتي كفاني ما بي من بلاء ومن جهد ومن عبارات تعتريني وزفرة تكاد لها نفسي تسيل من الوجد. وأوضحت له انها هالكة من الغد بعشقه. فلما كان الموعد جاء فوجدها هالكة، فضمّها ومات. فصعد الناس فوجدوهما على تلك الحالة فدفنوهما.