بقلم: عبد الواحد براهم بسط الاحتلال الاسباني نفوذه على تونس مدّة أربعين عاما (1535-1574) فبنى الحصون على السواحل بنية الانتشار بعد ذلك في المناطق الداخلية واعادة نشر المسيحية في ارض افريقية. لكن الأهالي لم يطيقوا وجود الاسبان، فلم يحصل تفاهم بين الفريقين، وتبادلا التعامل بكثير من الحذر والنّفور. نتج عن هذا أن لم تدرج على ألسنة الناس اللغة الاسبانية، ولم يبق لها من أثر بعد رحيلهم سوى مفردات متفرّقة استعملت بدافع الحاجة . ثم كانت حملة سنان باشا سنة 1574ميلادية موفدا من الدّّولة العثمانيّة، فحاصر تونس 42 يوما، ثم دخلها بعد هدم حصن حلق الوادي والبستيون الذي بناه الاسبان حديثا في باب البحر. عند ذلك رحل الاسبان يائسين من تنصير تونس، وبدأ العهد العثماني الذي دام مائة وثلاثين عاما ، اكتفى الأتراك خلالها بتولّي السلطة الادارية وقيادة الجيش، ولاءموا بين مقتضيات النظام الجديد وعادات الأهالي الذين كانوا مثلهم مسلمين. ولما كثر توارد جند التّرك على البلاد وانتشارهم في مختلف الأنحاء ألف الناس حضورهم، واستأنسوا بمن لم يظلمهم منهم، حتى أن بعض الجنود لما طالت اقامتهم واستقرّوا بتونس تزوّجوا منها، فنشأ من تلك الزيجات أبناء يدعى الواحد منهم « كورغلي»، وهي صفة من ولد لأب تركي وأم من سكان البلد، وقد تكاثروا، لكن أشهر هؤلاء في التاريخ حسين بن علي تركي مؤسس الدولة الحسينية، الذي تزوّج أبوه امرأة كافيّة من قبيلة شارن، والمؤرّخ محمد الصغير بن يوسف الذي استقرّ أبوه بباجة وتزوّج منها . ومع أنه جرى استعمال اللغة التركية في دوائر السلطة، بها تحرّر المراسيم والقرارات والمراسلات مع البلاط العثماني والدول الأجنبية، كما يجري بها التخاطب في أوجاق الترك، المستقلّة في تركيبتها عن الصبايحية وفرسان القبائل.. فان اللغة التركية لم تتسرّب الى الشارع، ولا الى أوساط العائلات المختلطة، بل كانت الغلبة دوما للهجة الدّارجة التونسية، مع استعمال بعض المفردات التركية مثلما حصل مع اللغة الاسبانية، ولم يصل الأمر الى تطعيم الجمل أو تحوير التراكيب المعقّدة. وكأنما كان ثمّة اتّفاق ضمني بين الجميع أن تلزم كل لغة مجالها لا تخرج عنه . على أن رجال السلطة الأتراك كانوا دوما يحترمون اللغة العربية ويعطونها الأولوية في كل مجال بصفتها لغة القرءان وعلوم الشريعة، وعوض أن يفرضوا على الأهالي تعلّم اللغة التركية بذلوا الجهد - هم وموظّفوهم - لتعلّم اللغة العربية. و كان من الصّعب العثور على كورغليّ لا يتكلم بلغة أمّه. في الأثناء استمرّ تألّق العربية الفصحى في جامع الزيتونة، وتأثيرها المعروف لدى علماء ذلك العصر وأدبائه، والى جانبها استمرّت اللهجة الدّارجة في حياتها المعتادة، لا تتطوّر ولا تندثر، وانما تنتقي من حين الى آخر تطعيمات من لهجات القادمين الجدد، دون أن تتبنى ثقافتهم. ثم كانت النّكبة الأندلسية في تلك الفترة، فدالت دولتهم و طردوا من بلادهم نهائيا سنة 1609 ميلادي « فكان من حسن الطالع لهذا القطر نصيب وافر من مهاجريهم (...) على عهد دولة الدّايات ابّان عنفوان الاستيلاء العثماني. فبذلك نشطت العزائم، واشرأبّت الأنفس، ومدّت العقول الأيدي لتتناول باشتياق وفرح وسرور الآداب الغضّة التي أتى بها أولئك الضيوف المنكوبون» (1). نعم استفاد أهل تونس من الضيوف الكثير من أساليب العيش، لكن على الصّعيد اللغوي حدث العكس، فالضيوف هم الذين استفادوا بمخالطتهم أهل البلد، اذ استعادوا لغتهم بعد أن أضاعوها منذ سقوط غرناطة ، وفي نفس الوقت وهبوا للدّارجة التونسية – كمن سبقهم – مسمّيات جديدة، ما زالت متداولة في حديث العامّة والحرفيّين الى اليوم . أما وقد وصلنا بجولتنا التاريخية الى هنا، فلا بدّ من تقرير أن افريقية التي تشكّلت منها تونس اليوم بعد أن صالت فيها أحداث التاريخ ( أو عبثت) بالأصابع العشرة ، بقيت تتحدّث اللغة العربية مع ذلك بمستوياتها الثلاثة المعروفة في البلدان العربية الأخرى، لا تشذّ عنها: لغة فصحى للادارة والعلم والأدب، ولغة وسطى مهذّبة، ولغة سوقيّة تدرج على ألسنة العامّة. وليس لي أن أعرّفها بأبلغ ممّا وصفها به أحد مؤرّخي الثقافة في تونس، وهو الصّادق الرّزقي الذي خبر المستويات الثلاثة وأدرك وظيفة كل واحد منها، فكتب : « لغة أهل قطرنا هي العربية الخالية من الاعراب، وهي أقرب من كل لهجة الى العربية الفصحى، سيما لهجة أهل البادية، لكن عندنا زوائد اصطلاحية قديمة كشين الاستفهام، ولفظ آش الاستفهامية أيضا، وبعض استعمالات وتحريفات وألفاظ دخيلة لا تبعدنا عن العربية الفصحى بعدا كبيرا». (2) (1)الرّزقي (الصادق) : الأغاني التونسية، الدّار التونسية للنشر، تونس1967، ص.51. (2) م.ن. ص.24.