كانت أفضل صوت عربي وستبقى... فاحترقت كشمعة الشتاء في بضع لحظات... بل مزق الرصاص جسدها الغض وأعدم الصوت الذي كان يصاحبنا في حلنا وترحالنا... نحو حنين الامهات... وآهات السنوات... «الى حضن أمي يحن فؤادي... الا سامي... الله غالب... وحياتي عندك... وغيرها من الابداعات الجميلة الاخرى. ذكرى محمد مازلنا نبكي رحيلها الصادم... مرت الاعوام وتمر... دون أن تبادر أية جهة تونسية أو عربية بجمع التراث الفني المهدور الذي خلفته صاحبة الصوت الذهبي ذكرى محمد وراءها على امتداد الوطن العربي الكبير... ففي الخليج يعرفون ابداعات الراحلة المصرية والخليجية طبعا... وولكن لا أحد منهم يعرف أغانيها التونسية والليبية... والمصريون أنفسهم لا يعرفون سوى انتاجها المصري فقط... أما الجمهور في ليبيا الشقيقة فيكتفون بما سجلته في بلدهم من عشرات الاغاني الناجحة.... ولا نعرف في تونس الا أغانيها المحلية التي قدمتها من ألحان عبد الرحمان العيادي وحمادي بن عثمان والشاعر المرحوم حسونة قسومة... ولا نكاد نعرف من أغانيها الليبية والخليجية الا القليل النادر..... هذه الراحلة ذكرى محمد ان من يلقي نظرة على رصيدها الزاخر والمتنوع سيكتشف للوهلة الاولى أنها كانت غزيرة الانتاج راقية الاختيارات... متميزة الحضور... حتى أ نها كانت أكبر الاصوات العربية تسجيلا للثنائيات الغنائية مع نجوم كبار من ذلك محمد عبده... أبو بكر سالم... محمد حسن.. أنغام وعبد الله الرويشد... كما تعاملت المرحومة مع عدد من الشعراء الكبار أمثال الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان... والامير بدر بن عبد المحسن وكان لها حضورها في الاحداث القومية المؤثرة نذكر منها بالخصوص الانتفاضة الفلسطينية.. غزو العراق... حصار ليبيا... ومثلما غنت لبلدها الحبيب تونس بكل عمق وصدق الانتماء... غنت للأقطار العربية فكان لها حضورها الفاعل في كل من قطر والسعودية والكويت ومصر وسوريا والمغرب كذلك الجماهيرية الليبية أين سجلت جملة من أغاني أم كلثوم مصحوبة برنات عود العازف محمد خميس وقدمت مع محمد حسن ملحمة النجع... ثم سجلت جزءا هاما من السيرة الهلالية ... كما كانت لها علاقة متميزة مع الشاعر علي الكيلاني من خلال عدد هام من الاغاني العاطفية والوطنية والثورية والاجتماعية في عديد الاعمال المتميزة. كما غنت في «الحلم العربي» و«بغداد لا تتألمي» كان لذكرى محمد حضور بارز وقوي في الاغنية الخليجية ضمن عشرات الاغاني التي قدمها لها ملحنون كبار وشعراء أفذاذ حتى أنها أثرت وجدان أهالي الخليج بصوتها وملامحها وألفها المغنى... ورغم مرور السنوات الاليمة مازال تراث التونسية ذكرى متناثرا في مختلف العواصم العربية... مازالت أغانيها وحفلاتها وحواراتها التلفزية والاذاعية وصورها النادرة والمقالات الصحفية التي كتبت عنها في الكثير من الصحف والمجلات... وحتى الكتب الصادرة حولها... وألبوماتها المنتشرة هنا وهناك... مازال كل ذلك يحتاج الى من يبادر بجمعه وتنظيمه ووضعه في اطار لائق يكون في متناول عشاق صوتها والباحثين في سيرتها ومسيرتها والمؤرخين والاعلاميين... وكل من له اهتمام بالاغنية العربية الاصيلة وبصوت ذكرى محمد التونسي الذي يبقى تونسيا رغم أنف المشككين الذين مازالوا يصرون على تشويه سمعتها بشتى الادعاءات وترويج الاشاعات المغرضة والفاحشة عنها... وقد تناسى هؤلاء خاصة في مصر بأن الوسط الفني عندهم عبارة عن اسطبل عفن بشهادة الفنانين ذاتهم... فذكرى شرفت الاغنية التونسية والعربية ولقب أجمل صوت عربي لم يولد في بؤر الخفافيش... ذكرى محمد والرسالة الخالدة في خضم الغضب القومي الذي رافق جريمة غزو العراق وخلال الاسبوع الاخير من شهر مارس سنة 2003 دخلت المطربة الراحلة ذكرى محمد استوديوهات «دار أجاويد» بالعاصمة الليبية طرابلس لتسجيل احدى أجمل وأروع أغنياتها وهي أغنية تندرج ضمن سلسلة المناشير السياحية التي تعود على اطلاقها الشاعر الليبي علي الكيلاني لتوثيق الاحداث وتأريخ الوقائع وايقاظ الهمم... يقول مطلع الاغنية: من يجرأ يقول... هذا موش معقول... عيني ع البصرة والموصل... وقلبي ف بغداد... ف وين الملاحم تسطر... ككتب أمجاد... ف وين الرفاق والاخوة.. ف وين العراق والنخوة... في وين الصدور تتصدى لأخطر عتاد... ف وين القبور مشتاقة لجثث الاوغاد... ف وين كربلاء... ووين بابل... حضارة تواجه قنابل... واذا كان مطلع الاغنية يضعنا مباشرة في قلب الحدث ويعطينا صورة متكاملة عن صمود وجهاد العراق الواحد بجنوبه وشماله... وسنته وشيعته فإن البيت القادم يكشف لنا عن مأساة الشعب الاعزل المعرض لقوة السلاح وغباء بعض حكام العرب الحاملين في صدورهم لأحقاد الاحقاب المتتالية ضد أمة بأكملها... تصدى لأذكى قنابل... وأغبى حكام... تقصف شيوخ وعوائل... وأطفال نيام... ظاهرها ديمقراطية... وباطنها سر البلية... الكروز موجه لصدري... بيقلع الاسلام... ويبدل ديني وايماني بكيس الطعام... وأناع الشمس نكتب له... نحيا ونموت على القبلة... ف وين الملاحم تسطر... تصنع أمجاد... أي مؤامرة اذن ضد الانسانية والتاريخ والدين والحضارة... وأي مشهد دام هذا الذي وضعنا أمامه الشاعر الكبير «علي الكيلاني» حيث قارب بين غباء القادة وذكاء السفاح في مفارقة عجيبة نتأكد من خلال الغوص في خطاب يدعي التبشير بالديموقراطية والحرية التي أتوا بها على ظهر دبابة وفي ذيول الصواريخ النووية ثم يعمل على اقتلاع قيم الايمان والحضارة والانتماء وتدنيس الشرف والهوية... في العراق المحتل مقابل كيس طعام وأكياس أخرى من الحلوى لتسميم الطفل العراقي اليتيم... عمر العراق طال عمره... عمر الفرات.... خالد في دم «النشامى»... والماجدات... العراق عربي الهوية... رمز الحضارة العربية... يبقى المثنى... والنجف... ودجلة... وذي قار..... رمز الحضارة... ومنارة... ع الغازي نار.... الله أكبر م الغازي الله أكبر م الطاغي والنازي... يهزم فلول التحالف وينصر بغداد... كتب علي الكيلاني وأدت ذكرى بصوتها رسالة خالدة ستبقى على مدى التاريخ مطبوعة في الذاكرة عنوانها الراسخ أن العراق العربي لن يتنازل عن عروبته وانتمائه الى أمتنا المجيدة مهما حاول الاعداء بمختلف أشكالهم ومسمياتهم ودوافعهم فسخ هوية بوابة الامة الشرقية أو اقتلاعها من عمق أصالتها المتجذرة في وجدان وذاكرة الارض والانسان معا... «عيني ع البصرة.. والموصل... وقلبي ف بغداد».