* ليون (فرنسا) «الشروق»: حورية باي في منطقة مرتفعة على بعد أربعين كيلومترا من مدينة «ليون» الفرنسية يقع أكبر مركز لتصنيع التلاقيح في العالم. أسئلة كثيرة تتزاحم في ذهنك وأنت تطأ هذا المكان الذي يشعرك وكأنك داخل احدى قواعد أبحاث الفضاء، حيث السكون مخيّم، والأجواء التي توحي بوجود أسرار من الصعب فك رموزها. في هذا المكان تتراءى أمامك صور كثيرة وتتردّد بداخلك أصداء عن تلاقيح خضعنا لها نحن أو أطفالنا ولكننا لم نهتم يوما بمصدرها أو أسمائها ولم يرهقنا الفضول لنعرف كيف يتم تصنيعها وفي أي ظروف، وأسئلة أخرى تتواتر ولا تقف عند حد. «الشروق» اغتنمت فرصة الرحلة التي نظمتها مخابر «صانوفي أفنتيس» لفائدة مجموعة من الصحفيين، لتقتحم هذا الموقع الذي تخفي أسواره الكثير من الأسرار العلمية. في هذا المكان الممتد على مساحة 36 هكتارا والمكوّن من تسعين مبنى ترتسم خيالات وصور علماء أفنوا حياتهم في البحث عن «ترياق» يحمي البشرية من أمراض فتاكة. فخيال «لويس باستور» يتجلى واضحا من خلال هذا المركز الذي أنشأه تلميذه «مارسيل ميريو» في عام 1897 لتتواصل الجهود والنجاح عبر مختلف المراحل إلى اليوم بعدما صار يحمل اسم «صانوفي باستور». حرب بلا هوادة الحرب «ضد الأمراض والفيروسات قد تشتد ثم تهدأ إعلاميا» لكنها «هنا» متواصلة وبلا هوادة خلف الأسوار. فالرهانات كبيرة والمستجدات متوقعة في أي لحظة والمباغتة قدتحدث من طرف عدو خفي ربما يكون فيروسا جديدا أو متحوّرا أو نوعا من البكتيريا. فعلى الرغم مما أنجز حيث حقق الانتاج في هذا الموقع أرقاما قياسية جعلت «صانوفي باستور» يحتل الريادة عالميا في مجال تصنيع اللقاحات ضد أكثر من عشرين مرضا فإن البحث متواصل لتطوير أكثر من 18 نوعا جديدا من التلاقيح ضد أمراض خطيرة أخرى غير التي نجحت التلاقيح والوقاية منها. فهذا الموضع ينتج ما معدّله 1.6 مليار وحدة تلقيح سنويا يستفيد منها أكثر من 500 مليون شخص عبر العالم. وقد تدفع بعض المستجدات مثلما حدث مؤخرا مع انتشار فيروس أنفلونزا الخنازير إلى مضاعفة الجهود لإنتاج المزيد من التلاقيح في ظرف وجيز بسبب كثرة الطلب عليها. خلية نحل في داخل هذا الموقع تتضافر جهود العقل البشري مع دقة الآلة (الكومبيوتر) في كل مرحلة من مراحل الإنتاج. فالدقة مطلوبة، والتركيز الشديد من أبجديات العمل والخطأ غير مسموح به أبدا لأنه قد يكلف روحا بشرية. لكل ذلك يبدو العاملون هنا وكأنهم خلية نحل الكل يتحرك ويعمل في صمت ويقوم بمهامه في دقة متناهية. فتصنيع التلقيح يمر بمراحل تتطلب الكثير من الحيطة والحذر، لأن توليد البكتيريا أو عزل الفيروس يحتاج إلى ظروف معينة واجراءات وقائية صارمة حتى لا يتم التسرب إلى خارج الفضاء المخصص لذلك وتحدث الكارثة أي الانتشار في الهواء وإصابة الأبرياء بأمراض خطيرة. وقد لا يخطر ببال أحد أن يتم استخدام البيض لانتاج البكتيريا وتوليدها فذلك ما اكتشفناه لدى زيارتنا إلى الموقع والذي لا يسمح بالدخول إلى كل وحداته. فقد أتيحت للوفد الصحفي فقط مشاهدة وحدة مراقبة التلاقيح عن كثب بعد ارتداء زي خاص كإجراء وقائي، وهو ما مكن من الاطلاع على تلك المجهودات الجبارة التي يقوم بها الاطار العامل في هذا الموقع من أجل تفادي الخطإ، فتوفر آلة مجهزة بكاميرا لمراقبة وحدة التلقيح لا يكفي لوحده، إذ ينبغي أن تمر العملية عبر التدقيق البشري، حيث يمضي العامل حوالي عشرين دقيقة في التدقيق والتمحيص بهدف اكتشاف أي خطإ متوقع. زيارة هذا الموقع والتجول عبر بعض وحداته تجاوزت ثلاث ساعات كاملة كانت كفيلة باكتشاف عالم جديد بالنسبة لأي شخص عادي، لم تتجاوز علاقته بالتلاقيح حدود الصيدلية وعيادة الطبيب. ورغم برودة الطقس في ذلك اليوم الغائم بالنسبة إلى مدينة ليون فإن الاستقبال كان دافئا واللياقة الفرنسية كانت حاضرة، حيث فاجأنا المسؤولون هناك بتعليق علم تونس قرب مدخل الموقع ودعونا إلى أخذ صورة جماعية كتذكار عن تلك الزيارة.