(1) أذكر زمنا لا أقول «جميلا» كما يحلو لبعض كتابنا وإخباريينا أن ينعتوه تأثرا سهلا بإخواننا المشارقة، ولكن أقول ليّنا وربما بريئا كنا فيه راضين بالسخرية من أهل البادية وكنّا أحيانا نبدي متعة وتلذذا بالاستهزاء من لهجتهم الخشنة «الساذجة». وتفاقمت ظاهرة السخرية هذه إلى حدّ التمركز والتأسّس في فنوننا الجماهيرية من سينما ومسرح حتى أن بعض نجومنا صاروا مختصين في أداء أدوار البدويين وانحصر استعمالهم أو كاد في تقمّص شخصية البدوي البسيط أو الفظّ، ولعلّكم لم تنسوا حمدة بن التيجاني أو حطّاب الذيب رحمهما اللّه اللذين تفنّنا في أداء هذا الدور على خشبة المسرح أو على شاشة التلفزة. (2) وفي الحقيقة أن السخرية والاستهزاء من البدوي أو الريفي أو القروي لم تكن خاصة بثقافتنا التونسية فهي عامة أو تكاد في بلدان العالم لا سيما منها التي عرفت حضارات قديمة مثل بلدان الشرق أو التي تحاذي البحر المتوسط. ولعلّ العرب أكثر من مارسوا السخرية من البدوي وجعل منها أدباؤهم متنفّسا لنقدالظواهر الاجتماعية أو حتى السياسية منذ العصر العباسي مستندين في ذلك إلى المكانة المشبوهة التي تحتلها شخصية البدوي أو الأعرابي في المخيال الثقافي والديني العامّين. أما في تونس فإن الذاكرة الشعبية لم تنس حشود بني هلال ولا ثورة علي بن غذاهم لذلك لم تكن السخرية من البدو خالية من شيء من إرادة الثأر اللاّواعي وإن كان السبب الرئيسي مأتاه خوف كان ينتاب أهل الحضر على عاداتهم ومكاسبهم من جموع النازحين لا سيما في العقدين اللذين عقبا الاستقلال. ولا شك أننا خسرنا الكثير في هذه المواجهة «الساخرة» بين شخصية البدوي والحضري فلقد أضعنا تراثا غنائيا كاملا هو «غناء فريقيا» وفرّطنا في كثير من عاداتنا الغذائية السليمة وقلبنا موازين بيئية واجتماعية واقتصادية. لقد انتصرت المدينة على الريف لأنها كانت تمتلك الاذاعة والتلفزة لكن الانتصار كان عابرا خادعا إذ لم يلبث أن التحق الريف بالمدينة فتضخّمت هذه وتزيّفت وافتقر ذاك وفرغ. (3) إن المدن تبنيها الثقافة بل وقد ينشئ الأدب أوطانا ويصنع امبراطوريات. أليست روسيا غير صنيعا أدبيا ولد من أقلام أدباء مثل بوشكين وقوقول ودستيوفسكي وتولستوي الذين أعطوا للروسيين هوية قبل أن تمنحها لهم دولة أو تعطيها لهم أرض أو يوفرها لهم دين؟ ولما سقطت الامبراطورية السوفياتية استدلّ الشعب الروسي بهؤلاء الأدباء ليعيد تثبيت هويته وتجذيرها في أرض روسيا الأريضة. وقريبا منا تعالت مدينة مرسيليا الفرنسية ونافست باريس العاصمة لأن الأديب مارسال بانيول Marcel Pagnol اختار أن يجعل منها بطلة مسرحياته وأفلامه التي طبعت فرنسا بلهجة الجنوب المشمسة، وكذلك فعل الأديب جون جيونو Jean Giono فأنتج أدبا تنفّس بعطور البادية الفرنسية وحول إليها وجهة المبدعين والمفكرين، ومعنى كل هذا هو أن الثقافة التي تبني المدينة تبني كذلك الريف (أو البادية) لأن الريف مُلازم للمدينة وكلاهما يحدّد خصوصية الآخر ويثريها. لماذا لم نعد نسمع شعرنا الشعبي الناطق بلهجتنا البدوية الحامل لأحلام تونس العميقة؟ لماذا لم نعد نقرأ أدبا في نقاوة نسيم البادية ورهافة صائغي المدينة مثل الذي كان يصيغه البشير خريف؟ لماذا لم نعد نرى فرقا شعبية على شاشات تلفزاتنا وغابت إبداعات جهاتنا عن أركاح مدينتنا؟ ولكن السؤال الحقيقي هو هل تسرعنا في تمدين ريفنا وفرضنا عليه نمطا ثقافيا استهلاكيا ولّد فيه حاجيات لم يكن له فيها حاجة فأصبح هو الآخر ينتظر المنّة والسلوى المهرجانية التي تُنزل عليه كل صائفة؟ وأخيرا: هل أصبحت الامكانيات المادية التي لم تتوفر أبدا كما توفرت اليوم للثقافة وللمبدعين داعيا للتراخي وللكسل وترييف المدينة وتزييف الريف؟ (4) إننا نعيش اليوم تحدّ لم تعرف الانسانية مثيله في الخطورة إذ هو يقلب القيم التي سارت منذ أرسطو حسب ترتيبة الأخلاق السياسة الاقتصاد إلى رسم يعطي الأولوية لتطوير مستوى العيش المادي فتصبح طبقة القيم كما يلي: الاقتصاد السياسة المجتمع (٭)، وهو تمش تحاول الليبرالية الجديدة أن تفرضه من خلال نمط الحداثة الغربية معتمدة في ذلك على الآليات والامكانات المهولة التي توفرها مكنة العولمة، ورغم أن الداعين إلى هذا النمط الحداثي الليبرالي الجديد يعلمون علم اليقين استحالة تحويل العالم إلى مجتمع استهلاكي لأن ذلك يُنهي كوكب الأرض في أقل من عقد واحد من الزمن فإنهم لا يتوانون في اختلاق كل الذرائع لفرض إرادتهم بقوة السلاح إذا اقتضى الأمر أو ليس احتلال العراق غير خطوة للوصول إلى ثروات منطقة الأوراسيا البترولية؟ لكن أهداف الليبرالية الجديدة بدأت تنكشف للعالم وطلاؤها «الإنساني» بدأ يبهت وظهرت بوادر تصدّ في عديد بقاع العالم تدعو للحوار الثقافي والعودة للمرجعيات الأصلية التي تحترم التنوّع والخصوصية وتعمل لأجل تكريس المواءمة بين النجاعة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وتتجه الرغبة اليوم في دول عديدة إلى إدراج الرهانات الثقافية ضمن مستلزمات الحكم الرشيد وإخراجه من ترتيبته الليبرالية الجديدة التي حبسته في أولويات الاقتصاد والسياسة. ويبقى تحدي الثقافة والمثقفين في تونس منحصرا أساسا في القدرة على الاستفادة مما توفره اليوم الإرادة السياسية من امكانات وعناية لينتجوا فكرا وفنّا يرقيان إلى مستوى عمق تجذرنا في هذه الأرض وطموحنا في صيانة هويتنا والاسهام في نفع الانسانية ولا يتم ذلك ما لم نعرف أنفسنا أولا ونحدّد مسارنا ونختار السبل الأقوم ثانيا.. وأن نعود إلى مرجعية أجدادنا البدو، كما كان يقول المرحوم صالح القرمادي. (5) كلمة إلى الصغير أولاد أحمد الذي أبدع حين كان عارفا بنفسه البدوية ثم يبدو وكأنه فتر. تراه قد نسي باديته الأصلية أم وجد البادية الحقيقية في الحاضرة فاسترخى؟ لقد عرفته بدويا أصيلا ضمآنا متضرّما شعرا مبدعا وكنت أول من ترجم له قصيدة. ٭ أنظر:Les enjeux de la mondialisation culturelle. De Tadif et Fachy