الرواية حكاية عشق ...قد تكون خيالية وقد تكون شيئا من السيرة الذاتية وقد تكون جمعا بين الصنفين...فأينما وليت رأيك إلا ودغدغتك القرائن والأدلة.... تجربة حب عادية يتداخل فيها السير ذاتي بالفني ...تبدأ بلقاء رجل وإمرأة ككل قصص الحب الرائجة في الأدب العربي أو في غيره....تعرفت الطبيبة على الشاعر عندما زارها للعلاج ثم اندلعت شرارة الحب بينهما ...تحول الأمر إلى علاقة حب اخترقت التقاليد وطلق الشاعر زوجته ثم تزوج الطبيبة وسط رفض الآخرين لكن فرحة التحدي لم تدم حيث مات الشاعر وحيد كامل بسرعة غير منتظرة وترك الحبيبة في حيرة وحزن.... تلك هي رواية «لحظات لا غير» للكاتبة المغربية فاتحة مرشيد وهي تتضمن حكاية كان لها أن تمر مرور الكرام وقد يتلقفها العشاق والمراهقون لكن نوعية الشخصيات الرئيسية التي اختارتها الروائية أعطت الرواية طعما آخر ... أن إقحام الشخصية المبدعة في الرواية نقلها من الإثارة الرومانسية إلى الإثارة الفكرية والثقافية حيث توغلت بعمق في جانب من نفسية المبدع العربي وحياته من خلال مثال وحيد كامل والكاتبة أسماء. وهو باب شاسع يتطلب الكثير ولذلك أقصر ملاحظاتي مبدئيا على وحيد كامل. 1 وحيد كامل..الصورة الأولى اذا نظرنا إلى شخصية وحيد كامل من منطلق اجتماعي وتحديدا من منظار مجتمع عربي لابد أن نسجل أنه من نمط مرفوض إذ تزوج أجنبية وقضى نصيبا من عمره مع فتاة سحاقية في الغرب ثم تنكر للرابطة الزوجية وعاشر مطلقة ثم تزوجها وهي سيرة ينظر إليها اجتماعيا بالرفض والاحتقار وهو وجه من وجوه الصراع مع المجتمع...هل تريد الراوية من خلال هذه الصورة أن تنتصر للقول الشائع بأن المبدعين هم الاكثر تمردا على التقاليد والعادات والقيم؟؟ ان هذا مجرد تخمين لا يعنينا في هذا العمل ولكن ما يعنينا هو تلك الصور التي التقطتها الكاتبة للمثقف العربي في هذه الرواية.ولا بد أن نتوقف هنا عند جملة من صفات وحيد كامل. 2 البحث عن الذات وحيد شاعر مصاب بالإكتئاب بلغت أزمته حد الرغبة في الإنتحار يضطر إلى العلاج النفسي بحثا عن ذاته إذ يقول وهو في العيادة «أنا هنا بحثا عني...أليس هذا وكر التائهين»ص8 إنه سؤال البحث عن الذات الذي ينشغل به الكثير من المبدعين العرب و يتوضح هذا السؤال الخطير عندما نتطرق إلى صورة الأب والأم في هذه الر واية فالشاعر يفتقد أمه ويعبر عن ذلك مرارا وهو يشعر باغتراب وضياع لذلك فوداعها هو وداع الطفولة «ودعت طفولتي في العاشرة من عمري عند وفاة والدتي اثر الحادث الفظيع»ص12 وهو يعتبرها أكثر من نفس بشرية «كانت الشمس التي تداعب وجهي كل صباح ولا تغرب قبل أن تنام» أما الأب فيشعر نحوه وحيد بالعداء والكراهية التي لها جذور فكرية فالأب انتقل سلوكه من عالم الخمر والكحول إلى عالم التطرف ونلاحظ تمردا تاما من الشاعر عليه «دخل في حالة من العزلة والتصوف والتقوى لم تكن لتغفر له عندي...بالغ هو في الصلاة والعبادة حتى التطرف وبالغت أنا في العصيان حد المعصية...وعندما تزوج بعد ثلاث سنوات من تيتمي بامرأة محتجبة تعرف الله كفرت أنا بكل البشر ودخلت معها في حرب معلنة.أشهرت عليها سيوف مراهقتي ودخلت في جهاد ضد جهدهما لاستقطابي من جديد»ص18 ولعل هذه السطور تلقي بنا في خضم قضية ثقافية تشغل الرأي العام الثقافي ألا وهي صراع ثقافتي الحداثة والأصولية والعداء المحتد بين أنصارهما . ولعل هذه القطيعة بين الشاعر ووالده ذات أبعاد أكثر من البعد السردي حيث يستحيل الأب سلطة عائلية ودينية وسياسية مذنبة في حق الابن وقد سلبته أمه الشمس وتحاول سلبه ثقافته وحداثته وتحاول تغيير قناعاته الاجتماعية والسياسية «زاد نشاطي السياسي في حدة صراعي مع والدي ...كان يهون عليه كل شيئ إلا كوني شيوعيا» ص23 أنه صراع المثقف ضد السلطة التي يجسدها الأب بكل جوانبها وهذا يحيلنا على ثقافة قتل الأب العربية فالأب بما يمثله من رمز للهوية المحافظة والثقافة التقليدية والسلط القامعة يعتبر ثقافيا حاجزا هاما.... فالشاعر هنا في حالة ضياع روحي كبير وبحث مستمر عن الذات فالأم ميتة والأب مرفوض فهل تر غب الكاتبة في أن تقول لنا أن المثقف العربي الحداثوي يبحث بنفسه عن شخصيته ويحاول نحت كيانه بعيدا عن الماضي والتاريخ وبعيدا عن كل قوى وقيم..... 3 الهروب بدت علاقة وحيد كامل بواقعه علاقة رفض وقطيعة .انه نفور بعض المثقفين من واقعهم المحلي والنظرة الحالمة بالأخر تلك النظرة التي تدوس على كل القيم والمعاني وتصفع كل الروابط بما فيها الدم لذلك يلوح في الرواية هروب وحيد كامل من القبيلة والمكان إلى أفق آخر وفكر أخر حيث يقول «عوضت روابط الدم بروابط الصداقة...إنها أمتن وأعمق...يكفي أننا نختارها بمحض إرادتنا...نتعلم منها ونكبر بها...حظي أني كنت من جيل عانق القضايا الكبرى لزمنه قبل أن يبلغ النضج الضروري لاستيعابها». لقد هرب الشاعر فكريا نحو الماركسية وجسديا نحو الغرب وعاطفيا نحو الأجنبيات وأقام علاقات مختلفة في فرنسا..... وهو بهذا يبحث عن حياة جديدة ويغامر من أجل الحرية ...تلك الحرية التي تبيح له تجاوز كل الروابط ومنها رابطة القانون والرابطة الأخلاقية مثل الوفاء لمن قام بالجميل وهو ما نفهمه من تجاوزه لزواجه القانوني من سوزان ونسيانه لما قامت به معه من جميل وخيانتها مع الطبيبة ثم الانفصال عنها وطلاقها وقد كان الشاعر مبررا لهذه المواقف مرارا «أجاب وهو يقبل يدي بين كلمة و أخرى الحرية احساس داخلي يا حبيبتي إن تشبثنا بها في أعماقنا فلن تأسرنا سجون الدنيا ثم منا من هو أسير جسده ومنا من هو أسير فكرة أو وهم...أنا حر معك وبك لأنني اخترتك» إنها تبريرات يبرر بها الشاعر خيانته ويعطي مشروعية لعلاقته الجديدة ولكنها تعبير عن الرغبة في التحرر...وربما أكثر من ذلك...الرغبة في تحطيم كل القيود وتدمير كل الروابط وهي رغبة كثيرا ما لاحت لدى المثقف العر بي.... 4 تخمينات تحيلنا شخصية وحيد كامل على ملامح المبدع العربي المعاصر القلق والحزين والمتمرد على الماضي والحاضر والباحث عن مزيدا من الحرية بل والحالم بالنموذج الغربي لكن تخليه عن زوجته الغربية التي ساعدته وصنعت له زمنا جميلا وضحت من أجله هو لحظة انهيار وهزيمة وخيانة في ان....ألا ترمز هذه الزوجة إلى الحداثة الغربية المغرم بها؟ وأليس التخلي الفجئي والغير مبرر عنها علامة انزياح وعجز عن مواصلة الطريق لأن الواقع الشرقي الذي تجسده الطبيبة يظل مغريا ومؤثرا؟ أليست النهاية السريعة لوحيد وهي النهاية الصادمة للدكتورة موحية بأن المجتمع العربي صدم بهؤلاء الإصلاحيين الذين سرعان ما تخفت أصواتهم؟ أليست الوفاة موحية بنهاية المثقف الأيديولوجي؟؟؟ انها مجرد تخمينات في هذه الشخصية الروائية التي جسدت نموذجا لضياع المثقف العربي وتقلباته حيث صاغت فاتحة مرشيد في تجربتها الروائية شخصية إشكالية....فالقارئ العربي العادي الذي يتوقف عند الأحداث لن يجد في وحيد كامل إلا شخصية ماجنة وغريبة السلوك والأطوار وتردد ما يشبه الكلام الجنوني ولكن الناقد والمتأمل سيلمح بسهولة الكثير من النقد والتحليل لشخصية المثقف العربي..... أبعد من هذا «لحظات لا غير» رواية تتأسف على زمن ما....زمن الأحلام والأفكار والعواطف....زمن الحب والشعر والجدل الفكري ولكنها تعيد دفنه في هذه الرواية بعد أن دفنه الواقع وفشل العلاج.... ٭ ٭ ٭ رواية «لحظات لا غير» ٭: الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد ط1 المركز الثقافي العربي الدارالبيضاء المغرب