صدر مؤخّرا للمؤلف محمّد الهاشمي عبّاس وبتقديم للأستاذ الشاذلي القليبي كتاب بعنوان: «بورقيبة ونويرة: ذكريات ومذكرات»تضمّن سردا مهمّا وموثّقا لعلاقة الرجلين على مدار سنوات طويلة. «الشروق»تنشر فصولا من هذا الكتاب ، وتشرع بنشر التقديم الّذي جاء على لسان الأستاذ الشاذلي القليبي والذي اوضح جوانب مهمّة جدّا من خصال وشخصية الزعيم الهادي نويرة: «عرفتُ الهادي نويرة، معرفة مباشرة، بعد دخولي العمل الحكومي، في أوائل الستينات. قبل ذلك، كنتُ أراه عن بعد. وقبل الإستقلال، لمّا كنتُ أستاذا، ومسكني قرب نهج الباشا، فكثيرا ما كانت الطريق تجمع بيننا، ذهابا أو إيابا، من بعيد، دون تلاق. المعروف، إذاك، عنه أنّه رجل فكر، واختصاصه الشؤون الإقتصاديّة والماليّة. وكان هذا الشأن يغلب على مقالاته التي ينشرها بصحيقة الحزب الأسبوعيّة التي عنوانها: Mission. وكانت مقالاته تستهوي النخبة التونسيّة، لِما تتّسم به من رصانة النهج، ودقّة التحليل، وبعد عن الصخب اللفظي الذي كثيرا ما يطغى على المنشورات الحزبيّة في ذلك العهد. ورغم أنّه كان من «قادة الحزب»، فقد عُرف بأنّه متعفّف عن الحرص على الظهور، وأنّه ملتزم بولائه لرئيس الحزب، المجاهد الأكبر. قبل الإستقلال، كانت تيّارات خفيّة تعتلج داخل صفوف «الدساترة». لكن الهادي نويرة كان بعيدا عنها جميعا، لا يُشارك في أيّ كتلة من الكُتل؛ ولا يبحث لنفسه عن أيّ مركز نفوذ. لمّا دخلتُ الحكومة، أحسستُ بأنّ أغلب أعضائها لهم، بصورة ما، انتماء إلى كتلة. لكن الهادي نويرة من القلائل الذين لا همّ لهم في ذلك ، وأذكر أنّ ما جعل بيني وبينه بداية تقارب، مطالعته الكتب الأدبيّة. ثمّ كنتُ، منذ عهد الطلب، في باريس، أفضّل صحيفة Le Monde على غيرها. فاتّفق أن تحدّثتً، في شأنها، مع سي الهادي، فأكّد لي تميّز هذه الجريدة، لكن مضيفا أنّ جريدة Le Figaro لا تقلّ أهميّة. فأردتُ أن أقف بنفسي على ذلك. فأقبلتُ على مطالعتها؛ فظهر لي أنّ في تقييم سي الهادي لها جانبا من الصحّة. فإن لم تكن تبلغ مستوى Le Monde، فمقالاتها مفيدة، أحيانا كثيرة. وتحادثنا مرارا وتكرارا، في ذلك، وفي ما نقرأه من كُتب؛ ممّا أنشأ بيننا علاقة فكريّة، لم تكن بيني وبين سائر أعضاء الحكومة الذين عرفتُهم إذاك. ثمّ الذي زاد هذا التقارب لحمة، ما التزمه الهادي نويرة من صمت وهدوء، أثناء «الفعفعة» التي قامت في أواخر سنة 1969، ضدّ التعاضد، والتي شارك فيها كلّ مَن هبّ ودبّ. وأذكر أنّا كنّا يوما، في انتظار بدء اجتماع الديوان السياسي، فقال لي سي الهادي إنّ التشنيع بالتعاضد وبالرجل الذي كان مسؤولا عنه، ومحاكمة عدد من المسؤولين، والحطّ من قيمتهم في أعين الشعب، لم يكن ضروريا وقد تكون له انعكاسات على الهيبة التي ينبغي أن يُحظى بها، كلّ مسؤول، في المستوى القومي أو في النطاق الوطني. ثمّ، لا بدّ للتاريخ، من ذِكر أمر له أهميّة، وهو أنّ الهادي نويرة، بعد اضطلاعه بمسؤوليّة الوزارة الأولى، أوقف موجة التنديد بسياسة التعاضد، الذي كانت البلاد سائرة فيه. ثمّ، لمّا رجعتُ إلى العمل الحكومي، بعد نحو ثلاث سنوات، أذكر أنّ الهادي نويرة قال أثناء مجلس الوزراء، إنّ ما تيسّر إنجازه لحكومته، منذ نوفمبر 1970، فضل فيه يعود إلى ما أنجز خلال الستينات، من مشاريع كبرى كانت البلاد في حاجة أكيدة إليها. كما أذكر أنّ الزميل منصور معلى أبدى أيضا، في أحد اجتماعات مجلس الوزراء، نفس الرأي. وللتاريخ هنا، لابدّ أن أذكر أنّ الهادي نويرة هو أوّل من نظّم أشغال مجلس الوزراء، تنظيما يليق بدولة عصريّة، من حيث الدوريّة، ومن حيث الملفّات المقدّمة إليه، ومن حيث عرض القضايا، ومناقشتها. وكان يحرص على سماع آراء المتدخّلين من الوزراء. بل، عند مناقشة قضايا يعتبرها أساسيّة، كان يطلب من كلّ أعضاء المجلس أن يُبدوا آراءهم، ولا يقبل أيّ استثناء في ذلك. ويتولى هو، في آخر النقاش، تلخيص الآراء المقدّمة، وغربلتها، وإبراز الأهمّ منها، داعيا المجلس إلى الموافقة على اعتمادها. ورغم أنّه كان يُحسن العربيّة، فإنّه يرى أنّها ليست في متناول كلّ المسؤولين؛ وأنّ جديّة العمل تقتضي نوعا من الصرامة في القول ومستوى في النقاش. لذلك كانت الفرنسيّة لغة المجلس، حتى يتمكن كلّ عضو من تناول الكلمة بكلّ يُسر. وللتاريخ أيضا، لم تكن حقبة السبعينات فترة هادئة، بالنسبة إلى أعصاب الهادي نويرة. فقد كانت مليئة بأنواع المشاكسة، وبنزعات عدائيّة، خفيّة تارة، وسافرة طورا، ضدّ شخصه، أو ضدّ سياسته. وكانت المناورات الضديّة تتواتر لدى رئيس الدولة، لإقناعه بخلع «باي الأمحال» قبل لحظة الوراثة. أذكر أنّي، في أواخر فيفري 1980، كنتُ مع سي الهادي، ومحمد الفيتوري، في مأدبة عشاء بالسفارة المغربيّة. وبعد تناول «الأتاي»، قام سي الهادي للخروج، وأشار إلينا بمصاحبته. وكان مسكنه إذاك، على مقربة من السفارة. فأخذنا «نتمشّى» معه، ذهابا وإيابا، في حديث طويل، دون أن يمسّ الموضوع الذي يشغل باله؛ وهو أنّه متوجّه صباحا إلى الجريد، لمقابلة رئيس الدولة، وما كان له من هواجس تتعلق بهذه المقابلة. وفي الغد، صباحا، اتصل بي من أعلمني بأنّ سي الهادي أصيب أثناء الليل بجلطة دماغيّة، لم يُفق منها بعد».