يعتبر نظام التقاعد الرافد الاساسي للسياسة الاجتماعية بالبلاد التونسية من حيث عدد المنتفعين بالجرايات ودوره الاقتصادي في توزيع الثروة والمداخيل والقضاء على العوز والحاجة والخصاصة في أواخر سنوات العمر الصعبة. وفي السنوات الاخيرة بدأت على ما يبدو تدبّ مظاهر الشيخوخة والعجز لمفاصل هذا النظام العتيد، فالمصاريف فاقت المداخيل بحيث تم الاستنجاد بالاحتياطات الاستراتيجية. وبما أن مشكلة نظام التقاعد هيكلية بالاساس ومرتبطة ارتباطا عضويا بالمتغيّرات الديمغرافية والاقتصادية فلم تفلح المعالجات الظرفية والمتمثلة في الرفع من مستوى المساهمات إلا في تأجيل الازمة لوقت قصير وذلك بتقليص العجز. وتعود أسباب العجز الحاصل لما يلي: 1) التوسع المفرط في الخدمات: النظام التوزيعي المتبع والمبني على مبدإ التكافل بين الاجيال بحيث يموّل النشيطون المتقاعدين يمكّن في بداياته من مداخيل كبيرة انجر عنها في غياب دراسات مستقبلية واستشرافية التوسّع في مستوى الخدمات بحيث أصبحت مع مرور الوقت استحقاقات تفوق بكثير الموارد فنظام التقاعد الحالي لا يمكن أن يستمر متوازنا لفترة طويلة حسب مستوى الخدمات الحالية إلا في ظروف اقتصادية وديمغرافية معينة بحيث يفوق عدد المغادرين للتقاعد بنسبة معينة عدد الوافدين الجدد للعمل الفعلي. 2) لم يقع توظيف المدخرات المالية والاحتياطيات بطريقة ناجعة: عندما كانت المداخيل وافرة والمصاريف قليلة لم يتم توظيف الفائض في مشاريع مربحة وذات مردودية عالية وتم التوسع في الخدمات والمساهمة في مشاريع ذات مردودية ضعيفة وأخرى مكلفة في نطاق دعم سياسة الدولة التنموية في القطاع الصحي والسكني مثلا. 3) تزايد عدد المحالين على التقاعد: بما أن عدد النشيطين بدأ يتطور بصفة ملحوظة خلال سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي وطبقا لتحرك الهيكلية العمرية فإننا الآن في خضم الاعداد الهائلة المحالة على التقاعد... 4) التوسع في نظام التغطية الاجتماعية: ما يقارب 95٪ من النشيطين يتمتعون بالتغطية الاجتماعية ورغم ما لهذا الامر من مزايا حميدة فإن الاستحقاقات كذلك تكون كبيرة وخاصة في ما يتعلق بالانظمة ذات المداخيل الضعيفة مقارنة بالمصاريف المرتفعة لأن فترة المساهمات قصيرة مقارنة بباقي الاجراء. 5) ارتفاع مؤشر البطالة: رغم التطور الاقتصادي والذي يفوق 5٪ سنويا فإن البطالة مازالت مرتفعة بنسبة تقارب 14٪ وخاصة بطالة أصحاب الشهائد الجامعية وهذا الامر يؤثر سلبا على مداخيل نظام التقاعد بحيث يتقلص مستوى المساهمات. فالدولة منذ الثمانينات من القرن الماضي وبعد تطبيق برنامج التكيف الهيكلي أصبحت تتبع سياسة تحفيزية على مستوى سوق الشغل بعد أن كانت المشغل الاول ودعمت القطاع الخاص الذي لم يستطع لهشاشته البنيوية استيعاب الطلبات الجديدة من الخريجين وكأن في الامر عدم مواءمة بين الكفاءات والتكوين ومتطلبات سوق الشغل. كما أن الازمات الوافدة من الخارج ضمن إطار العولمة والانفتاح الاقتصادي أثرت سلبا على المؤسسات الاقتصادية التي لم تستطع مواكبة التغييرات الهيكلية والتكنولوجية بالسرعة المطلوبة وكأنها مازالت في غفوة أيام الدعم وبحبوحة الحماية من طرف الدولة. وأمام العجز المتفاقم في نظام التقاعد أصبح الحل السحري في الرفع من المساهمات والتي أثقلت كاهل الاجراء والمؤجرين على حد السواء وأثرت سلبا على كلفة العمل مما يدفع بالمؤسسة الى تعويض اليد العاملة بالمكننة وهو حل لا يجدي نفعا ولا يحل المشكلة. كما تجدر الاشارة الى أن الحلول السحرية في هذا الشأن غير متوفرة خاصة بعد أن استفحل الداء في الجسد العليل كما يمكن أن تكون الحلول مؤلمة تصل الى حد البتر والتخلي عن المكتسبات المستحقة والتي لم تكن واقعية حتى يتعافى المريض ويعيش. وأهم الاقتراحات تتمحور حول المقاربات التالية: 1) الرفع من المساهمات: هذا التمشي أصبح عبءا على المداخيل والاقتصاد لأنه يؤثر على المداخيل المتاحة مثله مثل الجباية وبالتالي الادخار والاستهلاك، ويرفع من الكلفة الحدية للعمل بحيث يدفع بالمؤسسة الى إحلال التكنولوجيا والمكننة مكان اليد العاملة مما يرفع من البطالة وندخل في حلقة مفرغة يصعب الخروج منها. فهناك مستوى معين من المساهمات لا يمكن تجاوزه إذا أردنا المحافظة على بعض التوازنات الاقتصادية. 2) الرفع من مستوى الأجور: الاجور المطبقة حاليا لا تخضع لمبدإ العرض والطلب ومتحكم فيها بآليات التفاوض المرحلي ولا تتماشى مع الكلفة الموضوعية لتطور الاسعار. وبما أن المساهمات هي نسبة محددة من الاجور، فالرفع من تطورها بنسبة معينة يمكّن النظام من تجاوز عجزه دون المساس بنسبة المساهمات. 3) تمويل التقاعد عن طريق الجباية: يمكن للدولة تمويل نظام التقاعد عن طريق الجباية وهذه الطريقة لا تؤثر على كلفة العمل ومستوى التشغيل مثل الطريقة الحالية لكن يصعب تطبيقها على الاجور المتحركة والغير منتظمة. كما يمكن للدولة تحمّل أعباء العجز وخاصة بالنسبة الى الانظمة الخاصة والانظمة التي من صبغتها العناية بفئات معينة وتدخل في نطاق محاربة الفقر والعوز وهي أنظمة يصعب تطبيق مبدأ التأمين الاجتماعي عليها بحكم شح الموارد وتقدم أغلب منخرطيها في السن. 4) تقليص مستوى الخدمات: الخدمات التي يمنحها نظام التقاعد الحالي لا يوجد مثيلا لها في العالم كأن يتمتع المتقاعد بجراية تفوق ما يتقاضاه وهو يعمل. فنسبة التعويض جد مرتفعة تؤدي الى ارتفاع في التكلفة. ولهذا الامر لابد من اتباع طريقة تناسبية بين المداخيل والمصاريف تأخذ بعين الاعتبار المساهمات لفترة معينة وكذلك الاجور. وهذا التمشي يتم حسب مقايضة حتى لا يتم التخلي عن الحقوق المكتسبة بلا مقابل وهو أن نرفع من سن الاحالة على التقاعد مقابل تغيير في سلم مردودية سنوات العمل الفعلية لتكون في حدود 2٪ فقط. 5) الرفع من سن الاحالة على التقاعد: تماشيا مع تطور أمل الحياة عند الولادة والذي تجاوز 75 سنة فإنه من المنطقي أن نحافظ على الرأس مال البشري الذي ترتفع قيمته المعرفية مع التقدم في العمر حتى لا يقع انخفاض في المردود العام الاقتصادي زيادة على التقليص ولو الى حين في أعباء النظام وتمكينه من المداخيل اللازمة بالاستمرار في النشاط علما بأن أجور المحالين على التقاعد تفوق بكثير المنتدبين الجدد وذلك في انتظار الدخول في مرحلة جديدة من الوفرة الاقتصادية. 6) التقليص من عدد المحالين على التقاعد قبل السن القانونية: بما أن ظروف الحياة تطورت بما في ذلك العمل فإن الانسان يمكنه العمل الى حدود 65 سنة بصفة طبيعية ولا تقل انتاجيته الفعلية وتكبر خبرته وفاعليته، فإن التقاعد في سن 50 سنة مثلا أصبح عبءا على النظام ولا يساهم في الرفع من وتيرة التشغيل فكثيرا من المتقاعدين يقومون بأعمال متنوعة رغم أنف القانون لأنهم قادرون على ذلك في ظل تنامي الاقتصاد الخفي والعشوائي والموازي. 7) إدخال جرعة رأسمالية على النظام: لا يمكن في ظل وجود سوق مالية محدودة التأثير والمعاملات والمردودية المغامرة بتعويض النظام التوزيعي الحالي بنظام رأسمالي بحيث يقع تمويل الجرايات الفردية عن طريق مردودية التوظيفات المالية بالسوق المالية والبورصة لكنه من الممكن تحديد نسبة معينة لا تتجاوز 20٪ تموّل حسب النظام الرأسمالي والنظام القاعدي الاساسي (70 أو 80٪) يموّل حسب الطريقة التوزيعية مع بعض التغييرات المؤدية للتوازنات المالية في المنظور البعيد المدى (30 سنة).