بعد أن عرفت بلادنا منذ جويلية 2007 انطلاق العمل بالنظام الجديد للتأمين على المرض، بدأ التفكير أخيرا في معالجة المشاكل المطروحة أمام نظام التقاعد الذي ظهرت عليه علامات العجز على مستوى توازناته المالية بحيث تقلصت المساهمات وارتفعت تكاليف الجرايات وتوابعها. وبما أنّ النظام المتبع في بلادنا مؤسس على التوزيع والتكافل بين الاجيال فانّ التطور اللامتكافئ لعدد المتقاعدين مقارنة بعدد النشيطين (المؤشر الديمغرافي) يؤثر تأثيرا كبيرا على المداخيل والتكاليف. وتجدر الإشارة بأنّ المؤشر الديمغرافي هو نتيجة لثلاثة عوامل أساسية وهي كما يلي: 1 العامل الديمغرافي: وهو نسبة الولادات والوفيات ومؤمل الحياة عند الولادة. وهذا العامل يتأثر بطبيعة الحال بالتقدم العلمي والطبي خاصة وكذلك بمستوى المعيشة والمداخيل والعقلية والمستوى التعليمي وعمل المرأة. 2 العامل الاقتصادي: ونعني به بالخصوص النشاط الاقتصادي وتطور مستوى التشغيل والمداخيل والاجور لأنّ ذلك يؤثر على نسبة الانتدابات الجديدة والمساهمات. 3 العامل الهيكلي: فلكل نظام تاريخيته وقوانين تحكمه ومستوى معيّن من الخدمات المقدمة لمنظوريه وكثيرا ما تتأثر هذه الخدمات بظروف اجتماعية معيّنة وسياسية أيضا. فأيّ العوامل أشدّ تأثيرا على توازنات نظام التقاعد؟ بما ان هيكلية الخدمات التي تتحكم فيها القوانين فلا يمكن للمرء أن يتصور النزول بها أو المس من مستوياتها لان الامر يعدّ تراجعا في المكتسبات المستحقة وطبيعة المجتمعات البشرية هي التطور والتحسّن بحكم عوامل موضوعية وذاتية وليس التراجع الى الوراء والتقهقر. أما العامل الديمغرافي فهو بطيء التغيّر، كما انّ بلادنا لم تحقق بعد العمالة الكاملة Plein emploi حتى نفزع من قلة عدد النشيطين فمعدل البطالة مازال مرتفعا وهذا ما يجعل تفكيرنا يذهب الى أولوية العامل الاقتصادي. فكلما ازدهر الاقتصاد وتطور الى مستويات معينة تنشط سوق العمل فتكثر الانتدابات الجديدة حتى ترتفع قيمة المساهمات وتعود التوازنات الى حالتها الطبيعية، فالمشكل اقتصادي بالاساس ثم يأتي المشكل الديمغرافي ويتعلق خاصة بتطور امل الحياة عند الولادة لأنّه كلما كثر عدد المسنين وطال بهم العمر «ونحن لا نتمنى موتهم حتى تنتعش مداخيل الصناديق» ارتفعت تكاليف نظام التقاعد. المؤشر الديمغرافي فالنظام التوزيعي المتبع عندنا يكون في صحة جيّدةإذا كانت وتيرة الانتدابات الجديدة من المؤسسات المشغلة متواصلة ومستقرة لمواجهة الأعداد المتزايدة من المحالين على التقاعد. ان المؤشر الديمغرافي الذي يقيس حرارة النظام التوزيعي مرتبط أشد الارتباط بالنشاط الاقتصادي بالاساس في البلدان النامية مثل تونس. فوجود عدد كبير من النشيطين غير المباشرين لعمل لا يعني شيئا بالنسبة لنظام التقاعد فالمهم هو عدد الذين يعملون ويساهمون وهذا الأمر لا يكون متاحا ومحققا الا إذا كان الاقتصاد في صحة جيدة ويمكّن المؤسسة من الزيادة في وتيرة التشغيل. كما انّ وجود صندوقين للتقاعد يجعل من التوجهات الاقتصادية الأخيرة والتي اعتنقت آليات السوق والمنافسة الحرّة في ظلّ عولمة ذات أبعاد كونية بحيث وقع الاهتمام المتزايد بالقطاع الخاص على حساب القطاع العام، ذات تأثير اكبر على صندوق التقاعد مقارنة بصندوق التضامن الاجتماعي دون اعتبار الاختلافات في مستوى الخدمات المقدمة. فتسريح العمال مثلا والضغط على الانتدابات تؤثر سلبا على المساهمات مثله مثل الضغط على مستوى الاجور، لأنه كلما انخفضت وتيرة الاجور تقلصت المساهمات والمداخيل وهذا أيضا يعد بحد ذاته من العوامل الاقتصادية المهمة. فسياسة الأجور المنخفضة التي لا تتماشى مع كلفة الحياة والمعيشة وهي في الغالب لا تراعي عامل الانتاجية وتفضيل المكننة والتكنولوجيا على العنصر البشري هي في لب العملية الاقتصادية مثلها مثل الاختيارات المتبعة في مجال التحرير الاقتصادي وتشجيع سياسة السوق تحت لواء مبادرات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. لكن في ظل الأزمات التي تواجه العالم بأسره ينتظر استقرار الأوضاع الاقتصادية على حالها في بلادنا في المدى المنظور والمتوسط وربما نعيش بعض الركود الظرفي. ولهذا الامر يصعب توقع تطور اقتصادي ملحوظ برقمين مثلا ولذا يتجه التفكير الى معالجة الاخلالات في التوازنات المالية وذلك باتباع تمش عقلاني ومتدرج لا يمس بالحقوق المكتسبة ومستوى الخدمات المقدمة. 1 توحيد الصندوقين الحاليين في صندوق واحد للتقاعد مثل ما وقع في مجال التأمين على المرض أخيرا وهذا من شأنه بلورة سياسة اجتماعية متجانسة وشاملة تمكن من الضغط على المصاريف والعدالة الاجتماعية بين المتقاعدين وتوحيد الرؤيا. 2 الترفيع من سن التقاعد لجميع الاجراء وذلك لتخفيف الضغط الحالي على موازنة الصناديق بحكم استمرار تدفق المساهمات لفئة ذات أجور عالية وانخفاض في وتيرة المصاريف بحكم تقلص عدد المحالين على التقاعد. كما انّ هذا الأمر يتماشى تماما مع ارتفاع مؤمل الحياةعند الولادة وقدرة الاشخاص المحالين على التقاعد على مواصلة العمل المنتج بحكم انهم اصحاب خبرة كبيرة وافادتهم للعمل والتأطير مضمونة. فالتقدم الطبي الشامل ببلادنا وتحسن ظروف الحياة يجعل من المرء ان يعمل بانتاجية جيدة وهو في سن السبعين. فكيف نتخلى عن العناصر البشرية الكفؤة والمتدرجة وهي في أوج العطاء بدعوى أن ذلك يحل مشكل توازنات الصناديق الاجتماعية؟ فالرأس المال البشري لا يعد بثمن وهو الميزة الوحيدة تقريبا لبلادنا التي لا تتمتع بثروات كبيرة كما أنّ الانتدابات الجديدة لا يمكنها تعويض المغادرين ذوي الكفاءة والخبرة الا بعد وقت طويل تقل فيه الانتاجية لأنّ عملية التأقلم عملية صعبة ومعقدة في غالب الأحيان. كما انّ نسبة المتقاعدين الذي يعملون بعد احالتهم على التقاعد وخاصة في القطاع الخاص في ازدياد مستمر فخبرتهم تجعلهم مطلوبين أكثر من الوافدين الجدد على سوق الشغل وعديمي التجربة. وهذا دليل آخر على أن الإحالة المبكرة على التقاعد ونعني بذلك في سن الستين سنة وليس قبله تؤدي الى مزاحمة طالبي الشغل الجدد وبالتالي لا يساهم الأمر في معالجة مشكل البطالة بل يعمقها كما أنّه يساهم في تدهور ميزانيات الصناديق الاجتماعية، وزد على ذلك أن أجور المنتدبين الجدد ضعيفة مقارنة بالمحالين على التقاعد وقس على ذلك المساهمات المحولة الى الصناديق. فائدة كبيرة ولهذا فأنّ تأخير سن التقاعد الى 65 سنة وسحبه على جميع الاجراء له فائدة كبيرة على توازنات أنظمة التقاعد وكذلك على الاقتصاد ككل ما دمنا نعترف بأنّ خروج عدد لا بأس به من النشيطين في سن 60 سنة يعد هدرا للرأس المال البشري من ناحية كما يعد ضغطا آنيا على ميزانية الصناديق بحكم المستحقات التابعة للجرايات الفورية. أما الذين لا يستطيعون العمل بعد الستين ولأسباب صحية فيمكن تمكينهم من ذلك بعد معاينة ذلك طبيا. وهكذا يكون الأمر متماشيا مع المنطق العقلاني السليم بحيث تطور مؤمل الحياة ومستوى المعيشة يؤدي الى تحسن صحة الإنسان كما انّ المعارف والمهارات تتطور مع العمر وهذا ثابت حسب الدراسات العلمية والاكاديمية مما يجعل الانسان قادرا على المحافظة على انتاجيته الى حدود السبعين سنة ان لم نقل أكثر إلا لبعض الأعمال المرهقة والشاقة وهي معروفة ومحددة وقد عالجتها القوانين الحالية. كما انّ الدراسات تثبت أن المنتدبين الجدد لا يعوضون القدامى آليا وبكل يسر ولا يحققون انتاجية مماثلة لأنّ الأمر يتطلب تأقلما ومهارات خاصة بالعمل وخصوصيته كما انهم لا يقدمون بحكم الأجر المنخفض عائدا مماثلا للمغادرين أصحاب الرتب المتقدمة إلى خزينة الصناديق الاجتاعية. وأخيرا أثبت الواقع المعيش والدراسات أن المحالين على التقاعد في الستين وهم في حالة صحية جيدة يدخلون سوق الشغل وان تمنعهم القوانين ويزاحمون بالتالي طالبي الشغل فاقدي الخبرة وهذا ما يساهم في تطور نسبة البطالة ولا يخفض نسقها فكلما تأخر سن الإحالة على التقاعد كلما انخفض عدد المتقاعدين الباحثين عن عمل.