لا تزال مجزرة أسطول الحرية الأخيرة تلقي بظلالها القوية على العلاقة بين تركيا وإسرائيل خاصة بعد ان رفضت تل أبيب المطالب التركية بالاعتذار عن هذه الجريمة... هذا الرفض الذي جاء على لسان وزير الخارجية الاسرائيلي أفيغدور ليبرمان بقوله ان الاعتذار لتركيا يضرّ بمكانة إسرائيل وضعه وجها لوجه مع نظيره التركي أحمد داود أوغلو الذي يؤكد في المقابل على شروط بلاده في هذا الخصوص... مواجهة زاد في احتدامها اللقاء الذي جمع هذا الأخير بوزير التجارة الاسرائيلي بنيامين بن أليعازر دون علم ليبرمان الذي رأى في ما حصل محاولة لضرب دوره واستلابه... لكن هذه المواجهة تبدو في ظاهرها طبيعية بين رجلين لا يجمع بينهما شيء الا تاريخ الميلاد بما ان الاثنين ولدا في أواخر الخمسينات. فليبرمان بدأ حياته السياسية في حركة «كاخ» الارهابية ذات العقيدة العنصرية الفاشية ضد العرب وعرف في حينه انه رجل المهمات القذرة والشخصية المثيرة للجدل والأزمات بينما بدأ الثاني حياته أستاذا في العلاقات الدولية وعرف بنظرياته ذات التوجه الانساني حيث يناهض بشدة «صدام الحضارات» وكرّس جانبا مهما من حياته «مقاتلا» من أجل نبذ الكراهية وترسيخ قيم التسامح والحوار والسلام... وعلى الطرف المقابل يقف ليبرمان منظّرا للتطرف والارهاب والعنصرية.. لا يكفّ لسانه عن اطلاق «النار» باتجاه اي طرف عربي وفلسطيني.. حانق لا يعرف سوى الغضب على كل شيء... تركيبته معقدة... يحبّ الكراهية... ويكره الحب... يجيد فن المهاترات .. والتسويف والمماطلات... حتى من يصفهم ب «أصدقائه» يمقتونه ويكرهونه ويمتعضون لمجرد النظر الى ملامحه. كما علّق عنه أحد الصحافيين الاسرائيليين فيما يرى معارضوه انه فاشي ويمثل خطرا حتى على إسرائيل نفسها... وربما لهذا السبب بالذات آثر أوغلو ملاقاة بن أليعازر بدلا من «نظيره المتطرف» الذي يتجنبه الجميع ويصفه البعض ب «المتعجرف» و«عديم الديبلوماسية» لكن كل هذه الصفات لم يكترث لها ليبرمان الذي يدرك بدوره انه في المكان الخطإ وأنه مرفوض إقليميا ودوليا مما يعمّق ازمته الشخصية والحزبية ويضفي مشهدا هزليا على دوره في مسرحية انفصام الشخصية الذي يلعبه على المسرح السياسي الاسرائيلي... ولكنه يلعب على خيارين أحلاهما مرّ فإما الصمت ولحس غضبه المفتعل او الخروج من عباءة نتنياهو مسكونا في ذلك فقط بهاجس البقاء في ملعب الحكومة حتى ولو كان في الاحتياط أكثر من حرصه على لعب دور حقيقي في صناعة القرار في حكومته.. طموح... بلا حدود في المقابل كل من يعرف أحمد داود أوغلو يصفه بالمهندس وبالرجل الذي لا يعرف اليأس ولا حدود لطموحاته في ما يتعلق بمستقبل تركيا السياسي في المنطقة... فهو يرى أن تركيا دولة ذات امكانيات كبيرة تؤهلها لأن تكون احدى كبريات دول العالم ويعتقد أن مشكلة تركيا الاساسية تكمن في عدم قدرة قياداتها السياسية السابقة على رؤية ذلك والايمان به ولعل هذا كان وراء العديد من الخلافات التي واجهها مع بيروقراطيي الخارجية التركية الذين اتهموه في بدايات عمله معهم بأنه «أكاديمي حالم» يغفل واقع العمل الديبلوماسي على الارض وحدوده وعندما قام بدعوة رئيس المكتب السياسي بحركة «حماس» خالد مشعل الى تركيا في عام 2006 وقع «فريسة» لاتهامات وانتقادات الذين يرفضون دخول تركيا في ما يسمونه مستنقع الشرق الأوسط اذ ربطوا بين الزيارة وبين خلفيته الاسلامية ولكن الوزير التركي أو «كيسنجر تركيا» كما يصفه البعض خرج منتصرا من معركته معهم بعد أن استطاع تحويل ما وصفوه ب«التدخل التركي» في قضايا الشرق الأوسط المعقدة من احدى «محرّمات» السياسة التركية التقليدية الى أحد أهم عناصر نجاحها وتميّزها..ثقة داود أوغلو في قدرات بلاده التي يبدو أن لا حدود لها لا تأتي فقط من استقرار الحكومة التي ينتمي إليها وكسبه معظم الرهانات التي خاضها خلال السنوات السبع التي عمل خلالها مستشارا لرئيس الوزراء والتي جابه خلالها انتقادات كبيرة من المحافظين الجدد في الادارة الأمريكية خلال عهد جورج بوش الابن بسبب انفتاحه على إيران وسوريا ولكنها أيضا تأتي من مبدإ منهجي أرساه أوغلو يعتمد على مقاربة الرؤية للقضايا بدلا من مبدإ توجيه الأزمة الذي دخل بدوره في أزمة طالت حتى نهاية التسعينات..