لم تغربل الذاكرة بعد أحلامنا الصّغيرة في فضاء تلك القاعة الفسيحة بدار الثقافة الطيب المهيري بحي الزهور منذ بداية التسعينات حين ظهرت في تلك الفترة ملامح جيل جديد من الكتّاب اختلفت مرجعياتهم ورؤيتهم للكتابة لكنّهم التفّوا من أجل التأسيس لنصّ ابداعيّ مختلف، أذكر لذّة الفوز بجائزة الشّعر سنة 1993 كنت قادما وقتها من قرية سيدي علي بن عون بالوسط التّونسي ممتلئا بحماستي وأسئلتي وأوهامي، كان أقصى ما نحلم به في تلك الفترة هو كتابة نصّ شعريّ جميل وكان هذا المهرجان مناسبة سنوية للقاء وللحلم كان الشّعر جميلا وكنّا أنقياء بعلاقاتنا الصادقة وأرواحنا الشّابة وكان هذا المهرجان عرسا نعدّ له العدّة الكافية من المحبّة ومن الشّعر.أعتقد أنّ ما قدّمه لنا هذا المهرجان من دروس أخلاقية يتجاوز كثيرا ما قدّمه لنا من دروس في كتابة الشّعر والقصّة والرواية وغيرها من الأجناس لذلك أظلّ شخصيّا مدينا لكلّ من ساهم في تأسيس هذه المدرسة ولكلّ من ناضل من أجل انتظام دوراتها. ٭ كيف ترى السّاحة الأدبية اليوم؟ مجرّد الافتراض بوجود ساحة أدبية هو ضرب من ضروب التفاؤل، وعينا يقودنا دائما الى الايمان بأنّنا يجب أن نكون أحسن ممّا نحن عليه هذه الصراعات داخل اتّحاد الكتّاب وحول النقابة وغيرها أفقدت المشهد ملامحه حتّى أنّنا لم نعد نره متشكّلا في تظاهرات وفعاليات وغيرها من الأنشطة الّتي تفيد البلاد والعباد. الكاتب هو كائن ممتاز بأخلاقياته ومرجعياته وقيمه النبيلة الّتي يدافع عنها في نصّه لكن المهمّ أن يظلّ مدافعا عنها في حياته اليومية.لا أحبّ أن أشعر باليأس لكنني محبط بشكل كبير ، أنا لا أثق باتّحاد الكتّاب التونسيين لأنّه فشل فشلا ذريعا في احتواء الكتّاب ولمّ شملهم لكنني أيضا لا أثق بنقابة الكتّاب لأنّها بديل وهميّ لهذا الفشل. فقط علينا أن ننتبه الى نصوصنا في انتظار مشهد قادم-ربّما- يكون فيه مستوى الجدل أكثر رفعة وأكثر سموّا.ليس هناك حتّى الآن ما يوحي بأنّنا نؤسس لشيء ما. النوادي الأدبية لم تعد قادرة على احداث حراك جادّ والأدباء ركبوا أوهامهم وانجرّوا خلف صراعات استنزفت ما تبقّى من مواهبهم وقدراتهم الابداعية المتواضعة. ٭ جيلك ألا ترى أنّه سيء الحظّ؟ أعتقد ذلك ، هو سيء الحظّ ، لكنّ الأهمّ أنّه سيء السيرة أيضا. هذا الجيل لم يستفد من منجزات ومن أخطاء سابقيه .هذا الجيل لم يتجاوز ما أنجزته حركة الطليعة الأدبية في بداية السبعينات ولم يتجاوز ما أنجزه شعراء الثمانينات وما أنجزه غيرهم على امتداد خمسين سنة من الكتابة. هذا الجيل لم يرتكب بعد فعلا ابداعيّا جادّا بقدر ما يخسر آخر مواقعه في الكتابة وفي الحياة أيضا. هذا الجيل أربكته أوهام الحداثة المزعومة فظلّ يتعامل معها على مستوى المصطلح جاهلا بمفاهيمها وتمظهراتها لذلك ظلّت القطيعة قائمة بين خطاب شعريّ حداثي مزعوم وواقع ابداعي يدعو أحيانا الى السخرية . عدد كبير من شعراء هذا الجيل يحنّون للتقليد لكنّهم يرفعون مقابل ذلك ألوية الحداثة والتجديد. لقد عجز هذا الجيل على التخلّص من أوهامه فكان المنجز الأدبيّ ضعيفا تحرسه ببعض القراءات النقدية العابثة. ٭ سهولة النّشر، ألا تعتقد أنّها شوهت المشهد الأدبيّ في تونس؟ أوّل نص شعري نشرته كان في جريدة الأنوارالتونسية سنة 1983 كنت وقتها ترشيحيّا بدار المعلمين بقفصة لكنني لم أتجرّأ على اصدار كتابي الأول الا سنة 2003.عشرون سنة من الكتابة والنشر في الصحف التونسية والعربية أثمرت مجموعتي الشعرية «موعد الريح الأخيرة «. الغريب اليوم أنّ مجاميع تصدر لأشخاص يكتشفون فجأة وعن طريق الصدفة أنّهم شعراء والأغرب من ذلك أن هذه الكتب تلقى اهتماما لدى بعض النقّاد على حساب تجارب أخرى جادّة، لدينا شعراء بالصدفة وشعراء بالثقة وشعراء بالسلطة وشعراء بالأموال وشعراء بالادّعاء وغيرهم كثير... . المسألة معقّدة. أنا مع حرّية النشر ومع مزيد تيسير هذه العملية وفتح الآفاق أمام الكتّاب في مستوى نشر كتبهم وتوزيعها والاهتمام بها نقديا لكنني مقابل ذلك أشعر بالأسف لصدور بعض الأعمال التي لا ترتقي الى مستوى النشر. أعتقد أنّ الأعمال الجادّة هي التي تظلّ وتبقى، منذ سنوات ونحن ننادي بدراسة ملفّات النشر والتوزيع لكننا مقابل ذلك علينا البحث عن آليات موضوعية تضمن حدّا أدنى من الجودة في مستوى الاصدارات التي تنتسب الى مكتبتنا التونسية وتمثّلها أحيانا. ٭ لماذا لا يوجد شعراء كبار في تونس؟ كتّابنا يفتقرون الى الجدّية والحرفية والوعي بما يدور حولهم والى القدرة على الإمساك بتمفصلات المشهد الثقافي بكلّ تعقيداته. ثمة عوامل عديدة تساهم في صناعة شعراء كبار لم نهتد إليها بعد، تفطّن لها المشارقة منذ عقود لكننا ّ ظللنا عند التقليد نراوح في أماكننا. ليس هناك لحدّ الآن مشاريع شعرية تونسية يمكن أن تلفت الانتباه باستثناء بعض المحاولات المنفردة هنا وهناك. ٭ هل هناك نقد حقيقي في تونس؟ لا يمكن الحديث عن نقد في غياب الجمعيات الثقافية التي تهتمّ اساسا بالأدب التونسي فاتحاد الكتّاب مستقيل من مهامه الأدبية كالتعريف بالأدب التونسي والاعتناء به نقديا واعلامياونشره هذه الجمعية لم تتجرّأ على دعوة نخبة من النقّاد لدراسة الادب التونسي قديمه وحديثه وتسليط الضوء على التجارب المختلفة واكتفت ببعض الانطولوجيات التي تستهلك أطنانا من الورق لكن في المقابل لا ينتبه إليها أحد. هذا الدور منوط بعهدة اتحاد الكتاب التونسيين دون غيره. بعض المحاولات المنفردة لبعض الاعلاميين والأكاديميين لا يمكن بأي شكل أن تواكب حركة النّشر المتوهجة في مختلف أجناس الكتابة..هذا المناخ النقدي فتح الأبواب لبعض المتطفلين والعابثين لاقتحام هذا المجال والارتزاق منه على حساب جودة النص وقيمته الأدبية.لعلّ الحقيقة الساطعة هي أنّ أغلب ما يكتب حول الأدب التونسي يظلّ مجرّد آراء انطباعية لا ترتقي بأي شكل الى مرتبة النقد الأدبي. ٭ الرواية ألا تستهويك؟ أنا كائن قلق ومندفع ومزاجيّ أحيانا، لذلك لا يليق بي الكتابة في السّرد. الرواية تحتاج الى نفس مطمئنة هادئة وهذا ما أفتقده مبدئيّا ثمّ اني أستغرب لبعض الشعراء الّذين يختتمون مشوارهم الأدبي في أحضان الرواية، لكلّ جنس من أجناس الكتابة الأدبية طقوسه ومستلزماته الفنّية والجمالية لذلك يفشل أغلب الشعراء حين يجرّبون في السّرد باستثناء القليل منهم .أنا لا أطمح لخوض هذه التجربة لأنّي لست مؤهّلا لها نفسيا وفنّيا مع ذلك أحترم روح المبادرة لدى بعض الشعراء وجرأتهم على التجريب والبحث في أجناس أخرى. في النهاية كلّنا نحتفي بالحياة ونمشي معا على أرض واحدة هي أرض اللغة.