يوم الجمعة 9 جويلية 2010 في مطار فيينا لم يكن يومًا مثل بقيّة الأيّام...فقد تمّ تبادل مجموعة من الجواسيس بين روسياوالولايات المتّحدة (أربعة قدموا من موسكو وعشرة قدموا من نيويورك) في سياق «صفقة» هي الأولى من نوعها منذ نهاية «الحرب الباردة»! طبعًا بدأ الأمر بإنكار الطرفين وجود جواسيس لكلّ منها لدى الآخر! فالجواسيس كما هو «معلوم» كائنات خرافيّة من اختلاق المُصابين بهوس «نظريّة المؤامرة»! ثمّ اشتغلت «الماكنة» فاتّضح أنّ كلّ ما قيل صحيح، وتمّ الاتّفاق على عمليّة التبادل، واستُخدمت لذلك الطائرات المموّهة والسيّارات ذات البلّور المعتم، في سيناريو مُحكَم كنّا نظنّ أنّه حكرٌ على الروايات والأفلام!! إلاّ أنّ رجال «الديبلوماسيّة السريّة» غير مُلزمين كما يبدو بما يلتزم به الروائيّون والسينمائيّون! ومن ثمّ فإنّهم لا يحفَلون بما يتركون في «النصّ» أو في «السيناريو» من «ثغرات» معيبة! كأَنْ يشرحوا لنا مثلاً نصيب العمليّة من فحوى محادثات الوجبة السريعة التي تناولها الرئيسان الأمريكيّ والروسيّ! وصلتها بما يدور في أبخازيا وجورجيا ودول البلطيق وآسيا والشرق الأوسط! وعلاقتها بالملفّ التركي الإسرائيليّ! والثمن الذي قد تدفعه جرّاءها إيران والبلاد العربيّة تحديدًا! إضافةً إلى ما يشير إليه كلّ ذلك من فرضيّات ثبتت صحّتها على إثر تجارب سابقة كثيرة...كأن يتّضح أنّ الكشف عن هذين المجموعتين لم يكن سوى تضليل لإخفاء وجود خلايا أخرى نائمة في أكثر من بلاد، مثل تلك التي تمّ الكشف عنها في قبرص وفي بريطانيا وقريبًا منّا في في لبنان وفي غزّة وفي مصر، إلخ...أو كأَنْ يتمّ استرجاع عميل ثمّ يتّضح أنّهُ «قُلِبَ»...وهو ما لا يُستبعد في شأن العالِم الإيرانيّ الذي اختُطف ثمّ ظهر بقدرة قادر في الولايات المتّحدة! ومن يدري هل اخُتطف لشخصه أم للمقايضة على تسريح الجواسيس الأمريكان الذي اتّضح وجودهم في إيران؟! وهل يعود إلى بلده بطلاً أم عميلاً مزدوجًا أم عميلاً مدسوسًا يعمل لصالح الطرف الآخر؟! لا أحاول هنا تأليف رواية في أدب التجسّس...ولا أقترح فرضيّات تسدُّ أيًّا من هذه الثغرات المذكورة...فهذه الثغرات أوسع من طاقة هذا الحيّز، وتتطلّب جرّافات عملاقة تضيق بها هذه المساحة...لكنّي سأكتفي بإثارة مسألتين: المسألة الأولى تتعلّق بعجزنا على امتداد الخارطة العربيّة عن اكتساب الخبرة اللازمة من مثل هذه الوقائع والأحداث و«المؤامرات»...فهي ما انفكّت تحدث بالطريقة نفسها من تكذيب ونفي ثمّ تصديق وتأكيد...وإذا لم يكن التاريخ مؤامرةً محضًا فإنّه ما انفكّ يكشف لنا بين الحين والآخر عن أنّه يتقدّم، وعلى حسابنا في أكثر الأحيان، من مؤامرة إلى أخرى...وعلى الرغم من ذلك يجد البعض البراءة أو الخبث الكافيين كي يلقي على مثل هذه الأمور حجاب الغيبوبة والسبات، في حماسةٍ تثير الريبة، وكأنّه «واحد منهم»، مكلّف بمهمّة من «إيّاها»، متّهمًا «اليقظين» بأنّهم يطلقون العنان لخيالهم ويحمّلون الأمور فوق ما تحتمل من التأويل ويستسلمون إلى «نظرية المؤامرة»! أمّا المسألة الثانية فتتعلّق بتوقيت هذا الحدث وتضع فكرة «نهاية الحرب الباردة» موضع السؤال...إذ من الغريب أن يحدث هذا في مرحلة يغلب عليها «دفء العلاقات» المُعلَن بين القوّتين الأعظم...ممّا يجعلنا نسأل إن كان هذا «الدفء» حقيقيًّا أم خَطابِيًّا محضًا اقتضته مصالح جيوسياسيّة ظرفيّة، سرعان ما اتّضح أنّها تخفي تبادُلاً لقوالب الجليد في ورق سيلوفان دافئ؟! خلال «الحرب الباردة» بين الدولتين أصبح التجسّس منجمًا ذهبيًّا للكثير من الكتّاب والسينمائيّين وازدهرت أفلام التجسّس ورواياته. ولعلّ أكثرنا يذكر للكاتب البريطانيّ جون لوكاريه (رجل المخابرات سابقًا ومؤلّف الروائع لاحقًا) روايته الممتازة «الجاسوس القادم من البرد»...وكان الرأي أنّ «الحرب الباردة» وضعت أوزارها ومعها ما صاحبها من كُتُبٍ وأفلام، وأنّ على السينمائيّين والروائيّين أن يبحثوا عن «بقرة» أخرى يحلبونها!! فهل يُعاد النظر في هذا الرأي؟ وهل نحن أمام «حرب دافئة» لا تقلّ شراسةً عن سابقتها؟ وهل نقرأ قريبًا رواية جديدة بعنوان «الجواسيس القادمون من الدفء»؟