قد يكون الشعر غير كل هذا.. وذاك.. فقط هو ما يدفع للتجدد بالكتابة في هذه الحياة التي عليها ممكنات عديدة لاحتمال الوداعة والجمال حيث يعترف الكائن ما به يتناغم مع العناصر و التفاصيل... هذا مهمّ... ومنه ندخل عوالم شاعر ظلّ على تجواله الجميل في حدائق الشعر وبساتينه حيث تنحت الريح هبوبها.. والفراشات ألوانها.. إنّها رحلة الوجود المفعمة بالنشيد... الرحلة من «قلق» إلى المجموعة الأخيرة لمعت فيها خطى صاحبها في ثنايا السرد والشعر.. وبدت اللغة حالة أخرى من الدراما الإنسانية والوجدانية ضمن مراوحات كثيرة تأخذ الكائن إلى شجنه المجروح وحنينه المتروك وغنائه المبحوح... هكذا هي القصائد في هذه المجموعة الشعرية الأخيرة للشاعر حافظ محفوظ محلّ كلامنا هذا بعد أن مضينا إلى هناك مع الفراشات... قصائد اللوعة والمرارة تجاه هذا السقوط الذي تشهده الذات الإنسانية.. قصائد الحب المبثوث في أمكنة عديدة... وقصائد الألوان التي تطبع بها الفراشة جهات شتى مثل فراشة يوسف... فراشة يوسف وقصائد أخرى هو عنوان هذا العمل الشعري الأخير للشاعر حافظ محفوظ جاء في 126 صفحة من الحجم المتوسط عن دار الأطلسية للنشر بدأها بقصيدة آدم: «أوْثقتني في جذع هذي الأرض كنت أطيّر الكلمات من أوكارها فتكون ريحاأو غيوما أو مطرْ واليوم أغرسها وأسقيها وأحرسها من الطير الجياع فلاتكون سوى ظلال للحقيقة أو صور...» هذه القصيدة تتصدّر المجموعة معلنة عن إيقاعها الخاص والذي هو بمثابة الإطار الحاضن لبقية الأصوات النابعة من القصائد الأخرى انطلاقا من فراشة يوسف... ومن هنا يأخذنا الشاعر حافظ محفوظ إلى قصائد هي أصوات من التناغم والتداخل في حالة من التناسق الجمالي... فراشة يوسف نص شعري يقرأ القصة التي نعرفها ولكن بالكثير مما يتيحه الشعر من الخيال والعدول والصور البينة من قصيدة إلى أخرى ومن مقطع إلى مقطع آخر... فراشتي امتلأت بريح الحبّ ترقص في الضياء (...) هل ضاءت قناديل السقيفة حين قبلني هواء البئر؟ ها ضاءت قناديلي؟ وبين الحب والضياء مسافة من اللطم والعواء حيث الحقيقة تغرس بذورها لأزمنة أخرى فيما الكائن يلهو بالتعب والهوان... إنها حكاية الإنسان في توقه للبقاء كي يحتفي بالزهرات وبألوان البهاء التي تزركشها الفراشات... القصّة معلومة ولكن الشاعر هنا يأخذنا إلى أحوال الآن حيث لم يعد هناك مجال لاقتراف الحب... إنه الخجل من الشكل حيث الأفاعي تطوّق الأمكنة... والأجساد والعقول... وفي النهاية احتراق ما أسسته الفراشات من عطر الهبوب وطيف الجمال وبهاء المعاني... أليست الفراشات دالة في النهاية على الجمال... البراءة... الحرية... إنها القيم التي داستها عقارب الساعات وهي تأتي على فسحة الوقت... الوقت الذي تسقط فيه الأسماء وتزدهر فيه الخديعة وتمضي الحقيقة فيه ملطخة بالدماء. ولكن الشاعر يرى الأشياء بعين القلب يحضن فراشاته ويحميها لتعود لهوائها المكلل بالزهو واللمعان. «فراشتي انبعثت من الأعماق ترقص ترقص الأهرام يرقص إخوتي النيل يرقص يرقص الذئب القتيل قميصي المقدود يرقص يرقص الأهل السكارى يرقص البلد المحنّط يرقص الفرعون ترقص زوجة الفرعون أفعى البئر سقف النجار باب البيت (....) ظلام الكون يرقص في دمي وأنا أحاول أن أطيّر في الهواء فراشتي...» إنّها في النهاية لعبة الرقص حيث تسخر الكائنات من فعل القتل ولون الدم... ولا مجال إذن لغير الطيران والتحليق في أكوان الطمأنينة التي لا يصلها الإنسان وهو يمجّد فعل الدمار... الرقص فسحة أخرى للقول بالنهاية التي تفتح على بدايات جميلة... والقصيدة هنا تستدرجنا للعبة المشتهاة المراوحة بين السقوط والوقوف بين الموت والحياة... وبين الزوال والانبعاث... في هذه اللعبة الشيقة التي تخيّرها لنا الشاعر نجد عزاءنا للفراشات وحكاياتها الطافحة بالشجن... والآه...