لو جمعتُ هنيهات لقاءاتنا المتباعدة منذ سنوات، لما حصلتُ على أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات..وعلى الرغم من ذلك فإنّي لم أره إلاّ شعرتُ بأنّه لم يغادرني لحظة..وهو في تلك الباقة من الكتّاب والشعراء الذين أفتقدهم ويجري لساني بالسؤال عن أحوالهم وأخبارهم كلّما جلستُ إلى أحد الزملاء. ولعلّي أصبحت شديد الحذر والحيطة في هذا الأمر.. إذ أنّي أكادُ لا أسأل أحدًا عن أحد هذه الأيّام، إلاّ وقع الحاضرُ في الغائب فإذا أنا أسمع عن صاحبي وكأنّي لا أعرفه.. وإذا أنا أمام حلٍّ من اثنين: إمّا أن يسوء ظنّي في الحاضر والغائب معًا، وإمّا أن أصون نفسي عن السؤال مكتفيًا بما أكتشفه بنفسي من الشخص ونصّه. ذلك هو شأني مع رحيم الجماعي شاعرًا وإنسانًا..يكفي أن أقرأ له نصًّا حتى أشعر بأنّي أمام روح من تلك الأرواح الشريدة، التي تلملم مزقها وجراحها وتنسج منها أقنعة، شبيهة بشظايا البلّور وشبيهة بإبر القنفذ، هي صرخات وحركات وانفعالات أحيانًا، وهي نصوص وقصائد في أغلب الأحيان، لكنّها ليست في النهاية سوى طريقة للدفاع عن النفس والمحافظة على شعلة الهشاشة. خواطر راودتني وأنا أقرأ كتابه الممتع الجديد: «أبعد من نبع الغزال» الصادر سنة 2009 في 128ص..وهو الجزء الأوّل من قصيدة يعرضها علينا صاحبها في 114 مقطعًا، تكاد تستجيب كلّها إلى بنية الجملة الشرطيّة، بالنظر إلى حضور أداة الشرط الامتناعيّة «لو» في بداية كلّ قطعة.. لو كنتُ بحرًا / لعلوتُ على كلّ سواحل الأرض/ فقط لأطلّ على نورس في الجنوب. (ص15).. لو كنت قصيدة، لأطلقت ضوئي على قاتل المتنبّي. (ص39).. يبني رحيم الجماعي مقاطع قصيدته هذه على حرف التمنيّ لو..غير هيّاب أن يدلي بدلوه في متردّم لا نعدم له نظيرًا في الشعر العربيّ والغربيّ..إلاّ أنّه يعرف كيف يغمس هذه البنية في دمه ولحمه وفي مفردات معجمه الخاصّ، فإذا نحن نكتشفها معه من جديد، وإذا نحن نغتسل معه في النارين: نار الشكّ ونار اليقين، دون أن نعرف هل يتعلّق الأمر بأمنيات أم بسخرية من واقع الحال؟.. وهو التباس يُحْكِم الشاعر بناءه من خلال العودة أكثر من مرّة إلى مداخل بعينها: «لو كنتُ شاعرًا، لاعتنيتُ كأرملةٍ صغيرةٍ بتلميعِ حُزني، كي يعيش شفيفًا ونديًّا، وحصّنتُ روحي من..سرطان السعادة.. (ص35). «لو كنتُ شاعرًا، لمزّقتُ قصائد الحنين والحمّى والحزن المعتّق والسهر الطويل والنزوات، ثمّ أحرقتُها وأذريتُها للفراغ والريح وصحتُ: القصيدة ابنةُ المكر..تلك القصيدة.. (ص41). «لو كنتُ شاعرًا، لأيقظتُ النائمة الجميلة، وأغلقتُ خلفها قلبي وقلتُ: عليك أن ترحلي الآن، فقد انتهيتُ من القصيدة (ص69..). هذه العودة لا تقتصر على تيمة «الشاعر» بل تتجاوزها إلى تيمات أخرى عديدة (لو كنتُ شجاعًا..لو كنتُ حقودًا..إلخ..) يمكن أن تشكّل مداخل لمدّ القصيدة بأكثر من أفق للتأويل. كلّ ذلك في لغة قريبة من صاحبها لأنّها لغته اليوميّة، قريبة من الحياة لأنّها من عناصرها المحسوسة المرئيّة..قريبة من الأحياء لأنّها من لحم ودم وجراح وأفراح..لغة تخرج إلى قارئها دون ماكياج، دون حليّ، دون بهرج، دون أكسسوارات بلاغيّة، كدتُ أقول إنّها تخرج عارية لولا أنّها ترتدي جمالها كما يرتدي الطفل طفولته، كما ترتدي الفراشة هشاشتها، كما يرتدي الحلم بساطته.