عندما تطرقنا إلى كتاب محمد الصالح المهيدي «تاريخ الصحافة العربية التونسية 1860-1896»، الذي حققه وأضاف إليه، بل أكمله بطريقة علمية تشرف المحققين الأكفاء، أنس الشابي، أشرنا إلى بعض الأخطاء وبعض النواقص، التي اقترفها المهيدي وغفل عنها أنس الشابي (أنظر الشروق ليوم 29 جويلية 2010). وتجدر الملاحظة إلى أنّ التوضيح الذي قمنا به ثانية للاحتفاء ب 150 سنة على صدور «الرائد التونسي» عندما أشرنا إلى ريشارد هولط مؤسس مطبعة هذه الصحيفة التي أتحفتنا بعديد الكتب، كان حريا أن نحتفل بها ونحن نحتفل أيضا بسنة الكتاب، هو مجرد ترجمة لمقال جورج زفادوسكي حول هولط وليس مقالا من تأليفنا، باستثناء المقدمة والخاتمة (انظر الشروق ليوم 5 أوت 2010)، فليعذرنا القارئ، إذ لم نوضح بأنّ جورج زفادوفسكي تطرق إلى الموضوع من وجهة نظر استعمارية، متغافلا عن الدور الذي لعبه كلّ من خير الدين وأمير اللواء حسين في شأن هذه المطبعة وصحيفة «الرائد التونسي». ونشير الآن إلى أنّ المهيدي تحدث في الكتاب الذي حققه بإحكام عديد المرات عن قانون الضمان المالي الذي فرضته سلطات الحماية الفرنسية على الصحف بمختلف أنواعها، ممّا جعل العديد منها، حسب المهيدي، تتعطل عن الصدور بداية منذ سنة 1897. ولكن المهيدي لم يذكر أي تاريخ لهذا القانون. فهل هو قانون 1884 أم قانون 1897؟ الأكيد أنّ المهيدي يقصد هذا القانون الأخير لأنه درس الفترة الممتدة من 1860 الى 1896 دون أن يتحدث عن القوانين التي عرفتها المطبوعات. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ورغم إشارته إلى الضمان المالي الذي فرضته سلطات الحماية الفرنسية فإنه لم يمكنا من توضيح الظروف والدوافع التي جعلت السلطات الاستعمارية، وبالخصوص المقيم العام روني ميليي René Millet، تقدم على إصدار هذا القانون. يجب التذكير أوّلا بأنّ قانون الضمان المالي كان معمول به منذ 16 أكتوبر 1884، وهو حسب الفصل الثاني من هذا القانون بمقدار 6.000 فرنك للجرائد السياسية و3.000 فرنك للجرائد غير السياسية. ولكن سرعان ما وقع إلغاء هذا الضمان بمرسوم 16 أوت 1887 لكي تصبح المنشورات والجرائد تصدر دون قيد ولا شرط. مما أدى آنذاك إلى انتشار الصحف بمختلف مشاربها بالعربية والفرنسة والعبرية أيضا. وظهرت العشرات من العناوين، يمكننا التعرف إليها لو عدنا إلى «الدليل» القيم، رغم ما شابه من بعض الأخطاء الجزئية، الذي أصدره منذ سنوات زميلنا محمد حمدان. تسبب الضمان المالي الذي أعيد العمل به منذ 2 جانفي 1897 إلى حدود 2 جانفي 1904، في حجب العديد من الصحف العربية مثل «الزهرة» و»البصيرة» فقط، نظرا إلى أنّ «سبيل الرشاد» و»لسان الحق» قد احتجبتا من تلقاء نفسهما قبل صدور قانون الضمان بعدّة أشهر، بينما واصلت «الحاضرة» صدورها لأنها كانت تتلقى دعما من الإقامة العامة عن طريق الاشتراكات، حسب وثائق الخارجية الفرنسية. ولم يشمل قانون 2 جانفي 1897 الصحافة العبرية، على عكس ما ادعته فيما بعد سنة 1904 مروّجة فكرة أنها كانت ضحية قانون الضمان المالي لسنة 1897، ذلك لأنّ هذه الصحافة العبرية توقفت من تلقاء نفسها منذ مارس 1896 لأسباب يطول شرحها، تعرضنا إليها تفصيليا في كتابنا باللغة الفرنسية حول «الصحافة العبرية بتونس فيما بين 1884 و1896» (الطبعة الثانية، 2009، 125 ص) وهو الكُتيب الجدير، دون أن نثني على أنفسنا، بالقراءة لأهمية المعلومات التي تضمنها، حيث اعتمدنا على مقارعة أكثر من 50 مرجعا، وهو ليس مثل «الكتُب الحروز»، حسب تعبير أبي زيان السعدي، التي وقع تلقيطها دون التثبت في محتوياتها، ثم يقومون بدعوتنا إلى الرجوع إليها، وهي لا تساوي شيئا نظرا لما تحتويه من أخطاء معرفية وتاريخية فادحة، وبالتالي لا تستحق حتى الطبع لأنّ في ذلك خسارة للأوراق وفقدانا لمصداقية دور النشر التي تظهر كالفقاقيع بين الحين والحين وتتماها للحصول على دعم وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، دون مردودية لهذه الأخيرة، والتي من المفروض أن تراجع سياسة الاقتناء، جاعلة لجنة علمية لتقييم الكتب الممكن للوزارة شراؤها للمكتبات العمومية، إن كانت هذه الكتب توزع فعلا على هذه المكتبات ولا تقبع في مخازن نهج صدر بعل لكي «تطالعها الجرذان»، مثقلة بذلك كاهل الوزارة. إن ألحق قانون الضمان المالي لبداية سنة 1897، الذي لم يطنب المهيدي في الحديث عنه، ولم يتول أنس الشابي توضيحه في الهوامش، ضررا بالصحافة العربية، فإنّه في واقع الأمر لم يكن موجها إليها ولا الى الصحافة العبرية. بل كان موجها أساسا ضدّ الصحافة الإيطالية وبالخصوص الصحافة الفرنسية، أو البعض منها. فالصحافة الإيطالية كانت آنذاك تنادي بضرورة إلحاق تونس بإيطاليا، رغم الاتفاق الفرنسي-الإيطالي حول وضعية الإيطاليين بتونس المبرم في سبتمبر 1896. أمّا الصحافة الفرنسية، سواء اليسارية مثل «لابيتيت تونيزي» La Petite Tunisie لصاحبها إميل لاكروا وصديقه أوليس كروزي أو اليمينية الناطقة باسم المتفوقين مثل «لاتونيزي فرانساز» La Tunisie française لصاحبها فيكتور دي بوياد دي كارنيار، فقد شنت منذ بداية 1896 حملة تشهير ضدّ المقيم العام روني ميليي، بسبب سياسته الرأسمالية من ناحية وبسبب انفتاحه على المجتمع الإسلامي والتونسي من ناحية أخرى. فهو الذي شجع جماعة «الحاضرة» وكذلك الزيتونيين لإنشاء جمعية الخلدونية وإصلاح التعليم، نظرا لأنه كان من الماسونيين الذين يعتقدون آنذاك بضرورة نشر مبادئ الثورة الفرنسية عن طريق التعليم لتمكين الشعوب المستَعمرة من الرقيّ. لقد كانت حملة الصحف الفرنسية على هذا المقيم العام عنيفة، إلى درجة أنّ جريدة دي كارنيار اتهمته بالعمالة مع الألمان وشبهته بنيرون القادر، مثلما أقدم الأخير على حرق روما، بأن يقف على هضبة بيرصة والاستمتاع بحريق في قرطاج. كان المقيم العام آنذاك يطالب السلطات في باريس بتمكينه من إصدار قانون الضمان المالي، مثلما كان معمولا به في ما بين 1884 و1887، ولكن هذه السلطات كانت منشغلة أكثر فأكثر بمشاكلها الأوروبية وخاصة بعلاقاتها مع الرايخ الثاني، بعد أن قرر هذا الأخير توخي سياسة تقارب مع الإمبراطورية العثمانية وزيارة غليوم الثاني إلى المشرق العربي وخاصة القدس وإعلانه الوقوف إلى جانب عبد الحميد الثاني لحماية المقدسات الإسلامية، ممّا دفع بالصحافة العربية آنذاك الى نعته بالحاج غليوم. ولكن ما الذي حدث حتى توافق سلطات باريس في نهاية 1896، وبالتحديد في موفى ديسمبر من نفس السنة، حتى يتمكن المقيم العام من إصدار قانون الضمان المالي في 2 جانفي 1897؟ ففي يوم 18 ديسمبر 1896، نشرت جريدة «لابيتيت تونيزي» خبرا مفاده بأنّ أحد وجهاء الإقامة العامة يقيم علاقة خنائية مع زوجة الضابط جون سيرفوني، الذي وقع إبقاؤه ملحقا بالإقامة العامة بقرار من المقيم العام، بينما كان من المفروض أن يلتحق بالبحرية وان تغادر زوجته البلاد. هذه الإشارة واضحة والمقصود بصاحب العلاقة غير الشرعية هو المقيم العام بذاته. لم يعلم الضابط سرفوني، الذي كان قد ألف كتابا سنة 1888 بالاشتراك مع الحكيم فرناند لافيت حول خليج قابس (وأعيد طبعه سنة 2000)، لم يعلم بهذا الخبر. وعند دخوله صباحا إلى الإقامة العامة أشار إليه أحد الموظفين، وهو شارل ارنست مايي، الذي أشار إليه بيديه بأنّه زوج مخدوع. فكانت المشادة بينهما، انتهت في ذلك المساء بمبارزة بالسيف في ثكنة سانت هنري بباردو (ثكنة بوشوشة حاليا، مع العلم أنّ التونسيين كانوا يطلقون على المنطقة سنطارين، وهي في الأصل سانت هنري)، وبمقتل الضابط سرفوني. فكانت الطامة العامة، ممّا جعل «الديبيش تونيزيان» تطالب من الغد السلطات السياسية والقضائية بإخماد صوت هذه الجرائد، دون ضعف أو تردّد، خاصة تلك التي تبتزّ الرجال وتلطخ شرف النساء. واشتركت مع «اليبيش» جرائد أخرى مندّدة بما قامت به جريدة «لابيتيت تونيزي». وهذا ما دفع بالسلطات القضائية ليلة الاحتفاء بمولد المسيح 1896 الى محاصرة مطبعة بريقول بنهج الصادقية عدد 14، وأخذت القوات العامة كلا من صاحب المطبعة، بريقول، وصاحب الجريدة إميل لاكروا والمحرر أوليس كروزي، ووقع اقتيادهم نحو الجزائر لمحاكمتهم. هذه هي الدوافع التي جعلت المقيم العام يسارع بمطالبة باريس بالسماح له بإصدار قانون الضمان المالي، فاستجابت له الخارجية الفرنسية لأنّها ارتأت أنّ تجاوزات بعض الصحف أدّت إلى مقتل ضابط فرنسي. لم يقم المرحوم محمد الصالح المهيدي بالإشارة إلى تاريخ هذا القانون في 2 جانفي 1897، ولا الظروف التي حفت به، إذ ربما رأى أن هذا القانون حتى وإن أشار إليه، لا يتماشى وسياق الفترة التي أراد أن يؤرخ إليها وهي 1860-1896. وربما يكون هذا ما دفع أنس الشابي إلى عدم الإشارة، ولو بومضة، إلى هذا القانون. وإن قمنا بهذا التوضيح، فذلك من باب الإفادة للقراء، خاصة وأنّ عمل أنس الشابي أثبت فيه، رغم النقائص البسيطة، أنّ فعلا محققا جديرا بالاحترام، على عكس بعض الملقطين الذين لا يفيدوننا، بل يجروننا إلى العديد من الأخطاء وبعناد يتمسكون بها. ورغم أنني على علم بأنّ ملاحظاتي تسبب لي دوما الشفقة، فإني أطلب الشفقة من العزيز العليّ الكفيل بذلك حتى يمنحني متسعا لكي أشفق على من يشفق عليّ. بقلم: محمد العربي السنوسي (جامعي)