رغم أن التراث ليس ملكا لأحد دون غيره، فإنه يحق إلى حد كبير للفنان عبد الرحمان الشيخاوي أن يدافع بشكل خاص عن تراث الشمال الغربي، وأن يحتج على أداء بعض الفنانين والمغنين الآخرين له في المدة الأخيرة. ومن المؤكد أن عبد الرحمان الشيخاوي وعرضه الأخير «تراثيات» بحاجة إلى المزيد من التطوير والإحكام لكنه يظل في الوقت الحاضر احدى أفضل عمليات تقديم تراث الشمال الغربي للجمهور الواسع. قبل ذلك، قال لي الفنان المتميز، وريث الموسيقى الوترية في مدينة الكاف محمد العربي القلمامي «لا شيء يؤلمني أكثر مما أسمعه من عبارة تهذيب التراث، ومن هؤلاء الذين يبحثون عن رزق مات أهله يؤثثون به حفلة عرس أو أي شيء آخر». وقد قال لي أيضا بأسى عن أداء إحدى أشهر فناناتنا لأغنية تراثية: «لم أعد أعرف الأغنية، بدا لي أنها تغني الجاز ربما، وليس تراث الكاف»، وهو ما يحيلنا إلى مسألة مهمة تتعلق بهذا التراث الموسيقي الكبير والثري والذي ليس حكرا على الشمال الغربي ولا على أي اسم من الأسماء. لكن نيران «التصريحات الصحفية» وحتى المشاكسات المباشرة بين من يؤدون التراث اشتدت. أما عبد الرحمان الشيخاوي، فهو يحب الفن الذي يؤديه جدا، وهو مقتنع بذلك ويفعله من أعماق قلبه ويحاول أن يتقدم بفنه دون ادعاء التأليف أو التلحين. مرارا قال لي: «كثيرا ما أحس أني خلقت لكي أغني، لقد درست المسرح لكن قدري هو الغناء وليس أي غناء، بل فقط غناء جهتنا». ورغم الصوت القوي الذي لا يخونه أبدا، فهو لا يبدي أي ميل للأنواع الأخرى من الموسيقى ولا أذكر أني سمعته يوما يردد أو حتى يدندن بلحن غير ألحان الشمال الغربي. يروي عبد الرحمان الشيخاوي للمقربين منه أنه أغرم بالغناء البدوي الريفي منذ طفولته من جدته التي كانت تغني في البيت، ثم من الأعراس التي ما تزال تختزل كل ثقافة الجهة وما يزال «الغناي» فيها شخصا في قلب التعابير الثقافية والأحداث بكل أنواعها. ولم يكن عرض المنسيات الذي ألهب مشاعر الإعجاب بأغاني الشمال الغربي سوى الفرصة التي كان ينتظرها عبد الرحمان الشيخاوي للتقدم. وبعد ماراطون العروض الذي حقق أرقاما قياسية، وجد نفسه بعد توقف المنسيات يواجه السؤال الهام حول «ماذا سأفعل بهذا النجاح؟». يجب أن نعترف أنه الوحيد من المشاركين في هذه التجربة الذي تمكن من الصمود والحفاظ على حضور متكامل لأغاني الشمال الغربي على الساحة الثقافية. ومثل أي عرض فني، فسوف يقال الكثير عن إمكانية تطويره وتحسينه، رغم أن الشيخاوي يصر على أنه «غناي»، حامل معه تراث الجهة وطريقة أدائه بأمانة دون أية ادعاءات أخرى. وفي المقابل، كثيرون ينظرون إلى هذا التراث مثل «غنيمة حرب» لم يخوضوها ولا علاقة لهم بها، لكن يمكن الاستفادة منها في ظل حالة الفراغ الفني التي تضرب الساحة وغياب مشاريع موسيقية جديدة. لذلك يطلق عبدالرحمان الشيخاوي أصوات الاحتجاج على هذا الوضع الذي لا يزيد على «التمعش» من العودة إلى التراث. سوف يقال الكثير عن سر العودة العامة إلى تراث الكاف والتي جعلتنا نستمع إلى كوارث حقيقية على مستوى الأداء. فنانون كثيرون قادمون من الكاف أو مدن الشمال الغربي يعتبرون أداء هذا التراث حكرا عليهم، وهذا لا يجوز لهم طبعا، وفي المقابل، فنانون وأشباه مغنون من تونس وخارجها كثر يعمدون إلى الانقضاض على أغنية أو اثنتين من هذا التراث لأدائها بأسهل السبل: أورغ وإيقاع وكلمات لا علاقة لها بالنص الأصلي للأغنية الذي كثيرا ما يتحدث عن أسماء أماكن ووقائع معروفة في تاريخ الشمال الغربي. ويمكن بسهولة أن نضع هذا الاختيار في باب «الانتهازية الفنية» التي تجعل أي شخص يتصيد أغنية تراثية ناجحة فينقض عليها ويستغلها تجاريا بطريقة تبلغ حد تشويه العمل الأصلي، حتى أن البعض من هؤلاء المغنين يعمدون إلى استعارة كلمات من أغان من المزود حين تعوزهم الكلمات الأصلية. كثيرا ما قال لي محمد العربي القلمامي إن أداء هذه الموسيقى يتطلب أصواتا معنية وخانات معروفة وخصوصا حبا لتراث الجهة وفهما لتاريخها. «ثمة طقوس في هذا الفن، وتشبع بطبوع ومقامات معينة لحسن أدائه، بالإضافة إلى أنه يتطلب صوتا قويا».