لم تفكر السلطة الفلسطينية كثيرا قبل الموافقة على الدعوة التي وجهتها إليها الادارة الأمريكية لاستئناف المفاوضات المباشرة مع الجانب الاسرائيلي بعد أشهر طويلة من الأخذ والرد والضغوط التي قيل انها وصلت حد التهديدات. سلطة رام اللّه عقدت اجتماعا طارئا لإعلان قرار محسوم ومعروف مسبقا وهو الهرولة نحو مفاوضات يلفها الغموض ومازالت تثير الكثير من الجدل حتى صارت مؤشرا للانقسام داخل الساحة الفلسطينية.. فهل أن الخطوة التي أقدمت عليها السلطة الفلسطينية هي الخيار الأوحد الذي كان مطروحا أمامها والذي قد يفضي الى سلام طال انتظاره أم أنها حلقة أخرى من حلقات مسلسل التنازل عن الحقوق والثوابت؟ الفصائل الفلسطينية أجمعت في بيانات مختلفة لها على أن التوجّه الى خيار المفاوضات هو توجه خاطئ لأنه يمثل مسّا خطيرا بموقف الاجماع الوطني الذي عبّرت عنه قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير ولأنه يتعارض مع إرادة الشعب الفلسطيني وإرادة غالبية القوى والفصائل الفلسطينية ولأنه أيضا يعبّر عن حالة ضعف في الموقف الفلسطيني ورضوخ لإرادة فُرضت عليه من واشنطن بتحريض اسرائيلي واضح. فقد كان جليا منذ البداية أن استدراج محمود عباس الى طاولة المفاوضات المباشرة كان الغاية القصوى التي عملت حكومة الاحتلال الاسرائيلي على تحقيقها وقد أعلنها رئيس هذه الحكومة بنيامين نتنياهو مرارا أنه يرغب في الانتقال من مستوى المفاوضات غير المباشرة الى المفاوضات المباشرة دون شروط وكأن من حق الجانب المعتدي أن يفرض شروطه أيضا لإعادة بعض من الحقوق الى أصحابها ربما رأفة بالسيناتور الأمريكي جورج ميتشل ذي السبعين خريفا الذي كثرت زياراته الى المنطقة وأنفق الكثير من جهده دون أن يجد أي تجاوب من حكومة لم تراع العُرف الديبلوماسي وصداقتها لواشنطن لتتعمد استفزازه في واحدة من زياراته بإعلانها بناء مئات الوحدات الاستيطانية، في وقت عملت الادارة الأمريكية على مقاومة المشاريع الاستيطانية من أجل توفير مناخ من الثقة يسمح باستئناف المفاوضات، وهو ما لم يحصل.. ومع ذلك هرولت سلطة رام اللّه الى الفخ. وبدا واضحا أيضا أن الرغبة الجامحة لتل أبيب في بدء مفاوضات مباشرة تهدف بالأساس الى التغطية على جرائمها وتمرير مشاريع تهويد القدس وتغيير ملامح المدينة الديمغرافية وبناء المزيد من المستوطنات للحيلولة دون التوصل الى إقامة دولة فلسطينية «قابلة للحياة» كما تنصّ على ذلك أدبيات الأممالمتحدة واللجنة الرباعية الدولية. وبذلك تكون حكومة نتنياهو قد حققت ما تصبو إليه من غطاء دولي لجرائمها ولمخططاتها التدميرية بينما اكتفى الجانب الفلسطيني كما في كل مرة بالتهديد بالانسحاب من مسار المفاوضات إذا ما أعلنت حكومة الاحتلال بناء أي مستوطنات جديدة... وماذا ينفع التهديد بالانسحاب من مفاوضات الجميع يعلم مسبقا انها لن تحقق شيئا؟ هكذا إذن مضت السلطة الفلسطينية الى الخيار الأسوإ دون تحقيق اي من شروطها التي نادت بها طويلا وأولها وقف الاستيطان وتحديد مرجعيات التفاوض... صارت هذه النقاط التي يفترض ان تكون محسومة قبل الجلوس الى طاولة المفاوضات في حد ذاتها محاور للتفاوض وإضاعة الكثير من الوقت قبل الدخول في قضايا «الوضع النهائي» مع ان اسرائيل أعلنتها صراحة وضمنا أنها لا ترغب في الوصول الى «وضع نهائي في مفاوضاتها مع شريكها الفلسطيني لأنها دولة تخشى كل ما هو «نهائي» وتدرك انه إيذان بنهايتها. ولئن كانت الادارة الامريكية واللجنة الرباعية الدولية قد أعلنتا ان المفاوضات التي من المنتظر ان تبدأ يوم 2 سبتمبر المقبل قد تفضي الى نتائج في غضون عام فإن عمر المفاوضات قد يكون أقصر من ذلك بكثير اذا ما قررت السلطة تنفيذ ما كانت هددت به من مقاطعتها، لأن السيناريو المرجّح هو ان تقرر حكومة الاحتلال مواصلة انشطتها الاستيطانية بعد انقضاء مدة التجميد التي تنتهي في 26 سبتمبر المقبل فماذا سيكون رأي السلطة حينئذ، هل ستفي بوعودها وتحقق انجازا غير مسبوق بالانسحاب من مسار المفاوضات أم أنها ستتعامل مع هذا الواقع الجديد وتلغي نهائيا مطلب وقف الاستيطان وبالتالي تزيد من تضييق خياراتها وتمعن في خفض سقف مطالبها الى درجة ان يسوى هذا السقف بالارض التي لا تزال تنتظر من يحررها. أخطاء كثيرة ارتكبتها السلطة الفلسطينية حين قررت الانخراط في هذا النهج لكنها للاسف لم تعتبر من هذه الأخطاء بل انها تسعى في كل مرة الى تبريرها حتى تقنع الشعب الفلسطيني بخيار توجهها مع ان هذه المبررات لم تعد تقنع أحدا فاليوم تذرّعت سلطة عباس بأن ضغوطا رهيبة مورست عليها (وصلت حد التهديد بوقف المساعدات المالية) من أجل القبول باستئناف المفاوضات لكن «حماس» وقوى فلسطينية أخرى أكدت ان هذه المبررات لا اساس لها وستثبت الايام فعلا بعد الاعلان عن فشل المفاوضات وتعطلها ان تلك الضغوط التي تحدثت عنها السلطة الفلسطينية لم تكن مسكّنا للشعب الفلسطيني لتمرير مشروع المفاوضات المباشرة وما يحمله من اهداف اسرائيلية وأمريكية خالصة لاحظ فيها للشعب الفلسطيني سوى المزيد من المعاناة والغبن والقهر على وطن ضاع معظمه وها هم اليوم بعض أبنائه يعملون من حيث لا يعلمون ربما على بيع آخر ما تبقى منه!