لقد قامت بالقيروان مدرسة طبية متميزة ترعرعت على يدي إسحاق بن عمران الوارد من بغداد وما تولاه من نشر المعارف الطبية التي كانت نافقة بالمشرق على إثر حركة الترجمة التي ازدهرت على يدي الخليفة المأمون وكان إسحاق حاذقا عارفا بتركيب الأدوية، وهو أول من انصرف بإفريقية لاعتماد التجربة الطبية وكتب في مجالات عديدة منها الأدوية المفردة والصف والنبض، وتميّز بمؤلفه في الماليخوليا الذي لم يسبق للعرب أن ألفوا فيه. وكذلك نحا نحوه إسحاق بن سليمان الواصل من مصر وكان له الفضل في نقل الكثير من العلوم الطبية اللاتينية والإغريقية ووضع كتابا في الحميات وآخر في الأغذية، واستحكمت على يديهما قواعد المعرفة الطبية والصيدلية بإفريقية وتتلمذ عليهما نخبة من الأطباء كعلي بن اسحاق بن عمران ودوناش بن تميم، وتواتر ذكر الأطباء في كتب الطبقات الموضوعة في أبواب مختلفة إلى أن بلغت المدرسة الطبية الإفريقية نضجها في العهد الفاطمي وفي أيام صنهاجة على يدي أحمد بن الجزار المتوفى سنة 369ه وهو الذي كان أمامها بدون منازع، واسع المعرفة والاطلاع في مختلف الاختصاصات صيدلانيا ممارسا ألّف في مختلف العلوم حتى فاقت تآليفه الأربعة والأربعين كتابا، أهمها زاد المسافر الذي حظي بمنزلة كبيرة جدا في المشرق العربي وفي الأندلس وكتاب طب الفقراء الذي لم يسبق أن ألف فيه. واستطاعت مدرسة القيروان الطبية بفضل ابن الجزّار أن تضاهي مثيلتها بالمشرق وأن تشعّ على الثقافة الأوروبية في القرون الوسطى وكان لها أبلغ الأثر في نقل المعارف الطبية العربية إلى بلدان الحوض الشمالي للبحر الأبيض المتوسط عبر جامعات سالارن ومونبليي وبلاد الأندلس وقد ترجمت العديد من المؤلفات الطبية الإفريقية إلى اللاتينية واليونانية والعبرية حتى أننا لا نعرف أي طبيب عربي حظي مما حظي به ابن الجزار من الترجمات إلى مختلف اللغات العالمية خاصة عن طريق قسطنطين الإفريقي الذي ترجم كتاب الماليخوليا لإسحاق بن عمران وزاد المسافر وكتاب الخواص وكتاب المعدة وكتاب طب الفقراء والمساكين لابن الجزار. وقد تواصلت هذه المدرسة رافدا كبيرا من روافد المدرسة الطبية الأوروبية.