عندما بلغ الكاتب الراحل سمير العيادي الستين من العمر اتصل بي محمد بن رجب وقال لي إنه مع بعض أصدقائه يعتزمون إصدار كتاب تكريميٍّ عنه بهذه المناسبة، وطلب مني أن أشارك فيه بكلمة، فكتبت هذه الأسطر، كما كتب غيري مثلَها لنفس الغرض، ولكن هذا الكتاب لم ير النور إلى الآن، لذلك عدت إلى كلمتي لتقديمها في هذا الركن، لعلي أذكِّر أصحاب ذلك المشروع بما كانوا عازمين عليه، فيعودون إليه جادين، ولو بعد وفاة سمير: وقد حافظت على عنوان كلمتي التي لم أغير فيها إلا صياغة بعض الأفكار: ستون شمعة يوقدها نورالدين صمود (رفض صاحبنا أن يكون مثل الآخرين في كل شيء فقدم في البداية لقبه على اسمه، وغير فيه بعض التغيير، ورفض أن يكون نسخة طبق الأصل ممن سبقه في الكتابة نثرا وشعرا وأراد أن يشق لنفسه طريقا لم يسلكه قبله إلا بعض هواة التجديد وأعداء التقليد، فطلع على القراء بكتابه الأول : (صخب الصمت) الذي بدا للبعض متناقضا لا يستقيم معناه، وظنوه من باب خالف تعرف، ولكنا إذا التمسنا لأخينا عذرا أمكن لنا تفسير ذلك العنوان بأننا كثيرا ما سمعنا طنينا ودَوِيَّا في أعماق الظلام وفي عِزِّ الصمت والسكون يعصف بآذاننا، وهذا ما يمكن أن نسميه (صخب الصمت)، وأذكر أنه سألني أحد المتزمتين عن تناقض هذا العنوان، إثر صدور الكتاب، فأنشدت له قول الشاعر الطبيب الدكتور إبراهيم ناجي من قصيدة طويلة بعنوان «الخريف»: وقلت له: ألم تر كيف (رفرف الصمت؟ وكيف نام الوتر على صدر العود بينما كانت به شتَّى اللحون المتنوعة؟ وكيف رقد العاصف فيه وانطوت مهجة العود على صمت يصدر منه الرنين؟) ولولا يقيني من أن سائلي لا يعرف هذا الشعر المبرر لعنوان كتابه الذي ظن ناقده أن فيه تناقضا، لقلت له: إن سمير العيادي يستطيع أن يبرر عنوانه بأمثال هذا الشعر الذي غيّر فيه عبد الوهاب الضمير المذكر العائد على «الخريف» إلى الضمير المؤنث الذي جعله يعود على القيثارة المؤنثة التي سمى بها تلك الأغنية التي غناها قبل أن تغني أم كلثوم رائعة ذلك الشاعر الأخرى: «الأطلال» بوقت طويل. وأعود فأقول إن سميرا بدأ بكتابة القصة أو ما يشبه القصة ولم يكتب الشعر بالأسلوب التقليدي الموزون المقفَّى في البداية، لأنه لم يرد، أو أدرك أنه لا يستطيع أن يكون مثل المتنبي وأمثاله من العمالقة، فطلع علينا بمحاولات مفرطة في التجديد شكلا ومضمونا حتى كتب ما رآه البعض مخالفا للمألوف والمعروف، وما زلت أحفظ له ما يسميه «قصيدة» من هذا النوع الذي سماه خليفة محمد التليسي « قصيدة البيت الواحد» وعنده «قصيدة السطر الواحد» وهو قوله: (أكل الرجل خبزا وزيتونا بالشفاء والهناء) ولكنه لم يكتبه بهذا الشكل، بل وزعه على عدة أسطر وقطّع كلماته تقطيعا حتى احتل مساحة كبيرة من الجريدة التي نشرت ذلك السطر الممطط أو المكثف من الشعر المفرط في التجديد. وقد يظن ظان وبعض الظن إثم أنه عجز عن التعبير فطالب بالتغيير وأتى ب(صخب الصمت) وبقصيدة السطر الواحد، وقد كذّب ظن أولئك بأن خرج علينا بمجموعة قصائد غنائية لحنها كبار الملحنين ومشاهير المغنين في مختلف الأغراض، فهذه أغنية وطنية، وتلك أغنية عاطفية، وغيرهما من الشعر التأملي، وكلها موزونٌ مقفَّى ملتزمٌ بما يلتزم به كتاب الأغنية، لأن الغناء يتطلب ذلك ولا مجال فيه للإفراط في التجديد إلا في اللغة الجميلة والصور الشعرية وابتكار المعاني وتجنب المألوف المبتذل. لقد اقتنع صاحبنا منذ البداية بأنه ممثل ناجح، فقام ببعض الأدوار في شبابه الأول مع ثلة من أهل المسرح، وظن البعض أن ذلك من مراحل الشباب، لذلك هجر التمثيل حين اكتشف أنه قد خُلق للكتابة فتخلى عن ذلك الميل الشبابي، ولكنه عاد إلى هواه الأول عندما وجد العمل المناسب الذي يقتنع به ويُقنع الآخرين، فصال وجال، وتقمص أدوار كثير من الرجال، وكأني به، في رجوعه إلى التمثيل، يردد قول علي الدوعاجي في الأغنية التي غناها الهادي الجويني: وقد روى لي الهادي السملالي صديق المذكورين آنفا - كثيرا من الأخبار الطريفة عن علي الدوعاجي من ذلك أنه كتب، بعد الأبيات الثلاثة الأولى، من الأغنية السابقة، بيتا آخر وهو: لكن الهادي الجويني حذفه عندما غنى تلك الأغنية الغزلية، وأعتقد أن هذه الأغنية ليست من وضع الدوعاجي ولكنه ترجمها عن اللغة الفرنسية. بعد هذا الكلام، مع ذلك السائل الكريم، أحسست بأنيِ أجبته في رجوع سمير إلى التمثيل عندما أنشدت له قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي في الحب الأول: وهنا تذكرت أن الشاعر الهندي الأكبر رابندرانات طاغور كان كاتبا كبيرا وشاعرا عظيما نال جائزة نوبل للآداب في أوائل القرن العشرين عن أعماله الأدبية شعرا ونثرا بلغته البنغالية وباللغة الإنكليزية التي كان أصحابُها يستعمرون بلادَه، وقد نال شهرته الأدبية عن طريق شهرته في التمثيل لأنه كان يكتب ويمثل ويدير فرقة تمثيلية يجوب بها الآفاق الهندية كما كان «موليير» يجوب ربوع فرنسا على مسرحه المتنقل على عربة، وسمير يجيد الكتابة بلغة قومه وبلغة من كان يستعمر بلادنا، (ومن تعلم لغة قوم أمِنَ شرهم). أضف إلى ذلك أن صلة صاحبنا بالتمثيل وبالمسرح جعلته يقتبس من ثقافة الغير الكثير، فإذا كان الشاعر الألماني «غوته» قد كتب (فاوست) فقد كتب لنا سمير: (وهذا فاوست آخر) وقد مُثِّلتْ هذه المسرحية في أكبر المهرجانات وهو عنوان طريف يذكرنا بكلمة دعائية معروفة عن مُسَمَّى على وزن فاوست، (لو شاء لاتخذ عليها أجرا). وقد توغل صاحبنا في حياة شاعر الشعب محمود بيرم التونسي ذي الأصول التونسية فصوّر لنا حياته في تونس خاصة واستعاد لنا لوحة من حياته استوحاها من شعره ومن (مذكرات المنفى) التي كتبها عن نفيه من مصر إلى فرنسا وإلى تونس لأسباب يطول شرحها، وصور لنا، بنفس الطريقة، حياة علي الدوعاجي و«جماعة تحت السور» في أيام نعيمهم وجحيمهم. وعندما دعاني صاحبنا للمشاركة في النشاط الثقافي الذي أقيم بمسقط رأسه المطوية في مكتبة شيخ الأدباء محمد العروسي المطوي لتقديم هدية معالي الشيخ عبد المقصود خوجه المتمثلة في مائة مجلد من مطبوعاته التي يوزعها مجانا، رأيته يدير المهرجان بحنكة وحرفية وتلقائية فيخاطب القادمين من الشمال بلهجة أهل الشمال ويكلم أهل الجنوب بلهجة أهل الجنوب، فكان في لهجته جنوبيا مطويًّا قابسيا، وجمع بين الأصالة والتفتح أو بين التجذر والتطور فهو في تونس تونسي اللهجة وفي مسقط رأسه مطوي اللهجة دون انطواء. وفي الأخير أنا مضطر إلى الاكتفاء بهذه الكلمات في هذه المناسبة، وأخشى ما أخشاه أن يقول سمير، بعد قراءة هذه الكلمة، مقالة ذلك الأعرابي الذي كان يصلي فسمع الناس يذكرون مزاياه وفضائله، فقطع صلاته وقال لهم: «وأنا إلى جانب ذلك صائم اليوم»، ثم يأخذ في إضافة ما سهوت عن ذكره أو يوحي إلى بعض محبيه بإضافة ما لم أتمكن من قوله في هذه الكلمة الموجزة، وعذري في هذا الإيجاز قول الراجز: تلك هي كلمتي المعتّقة عن سمير أرجو أن أراها على صفحات كتاب مع أخواتها ممن كتبوها في حياته، مثل الدكتور فوزي الزمرلي وغيره، ورجائي أن يعرف ذلك الكتاب الطريق إلى المطبعة، وأن لا ننتظر مرور الأعوام الطوال حتى تحتفل الأجيال القادمة بمائوية ميلاده كما احتفلنا بمائوية الشابي والشيخ الفاضل والدوعاجي والجموسي وخريف في السنتين الأخيرتين، مرددين مع فنان الغلبة: