المتابع لتفاصيل النهج التفاوضي الذي تتبعه اسرائيل لا يزداد إلا قناعة ويقينا بأن هذا الكيان يبقى وفيّا لنهج «التدويخ السياسي»، الذي وضعه الداهية بيريز والذي خطّط من خلاله لتدويخ الفلسطينيين من خلال الإكثار من المحطات التفاوضية وتغيير الأماكن والطواقم بما يمكن في كل محطة من إنزال سقف المطالب الفلسطينية بعد أن يكون الفلسطينيون قد أصيبوا بالدوار السياسي واضطربت بوصلتهم التفاوضية. فقد تظاهروا بتجميد الاستيطان للانتقال بالطرف الفلسطيني من المفاوضات غير المباشرة الى المفاوضات المباشرة.. ومع حلول أجل انتهاء مهلة التجميد المؤقت (التي تصادف اليوم) هدّد الفلسطينيون بمقاطعة المفاوضات ان عمدت اسرائيل الى إنهاء تجميد بناء المستوطنات.. ومع أن كل حلفاء اسرائيل وفي طليعتهم الولاياتالمتحدة باتوا يطالبون جهارا نهارا بضرورة تمديد التجميد حماية للمفاوضات المتعثرة والمترنّحة أصلا، فإن الصهاينة لم يعد لهم الحيلة للاستفادة من هذا السيف الذي سلطوه على «رقبة» العملية التفاوضية.. ومرة أخرى لاذوا بعملية «التدويخ السياسي» وعوّلوا من خلالها على مزيد النزول بسقف المطالب الفلسطينية فقد فتحوا كوّة روّجوا من خلالها لاحتمال قبولهم باستئناف جزئي لبناء المستوطنات مقابل الاستمرار في المفاوضات.. وبذلك يعيدون الكرة الى المرمى الفلسطيني.. فإن رفض الفلسطينيون هذا المقترح ظهروا في مظهر المتشدّد الرافض لإبداء شيء من المرونة يتطلبه استمرار العملية التفاوضية.. وإن قبلوا فإن ذلك سيكون بمثابة الضوء الأخضر لاستمرار الاستيطان.. ووقتها سيدخل بناء كل وحدة استيطانية في القدس أو غيرها من أراضي الضفة الغربيةالمحتلة في خانة الاستثناء وفي باب الأماكن المشمولة برفع التجميد الجزئي.. وبذلك يضمن الصهاينة لأنفسهم وضعا مريحا يتمثل في مفاوضة الفلسطينيين بيد، وبالمضي قدما في بناء المستوطنات باليد الأخرى.. وهو غاية ما يطلبونه من المفاوضات: المزيد من الوقت لبناء المزيد من المستوطنات ولتهويد المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة والاقتراب أكثر فأكثر من استكمال رسم الحدود بإقصاء قرارات الشرعية الدولية وبالاعتماد على غطرسة القوة وعلى سياسة الأمر الواقع وعلى انحياز الراعي الأمريكي. فهذا الكيان لا يؤمن بالسلام ولا يعترف بقرارات الشرعية الدولية وكل ما يطلبه هو غطاء سياسي دولي يمطط من خلاله المفاوضات الى ما لا نهاية ويوفر له الوقت اللازم لاستكمال رسم الحل النهائي الذي يراه: كانتونات فلسطينية متناثرة تتمتع بحكم ذاتي إداري وتعمل جاهدة لحماية أمن اسرائيل.. أما الدولة الفلسطينية المستقلة، وأما الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني فتلك مسائل يمكن أن تنتظر طالما أن الدول والحقوق لا تهدى على أطباق من ذهب.. وسيكون هذا آخر امتحان للسلطة الفلسطينية، إن وقعت مجددا فريسة ل«التدويخ السياسي» وقبلت بالتفاوض تحت ضجيج البنائين في المستوطنات فستكون رقبته والسكين.. الى جلاّده.