بالتأكيد لم يعد انعقاد لجنة على مستوى الجامعة العربية ولا حتى ما هو أعلى من هذا المستوى خبرا عاجلا، وبالتأكيد أيضا لم يعد تناول الجامعة العربية لملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بالخبر العاجل. ببساطة شديدة لأن الجامعة العربية استنزفت اجتماعاتها في ملف المفاوضات لسنوات طويلة على مستوى اللجان والوزراء وصولا إلى مستوى القمة، ولم يستطع الموقف الصادر عنها أن يحجز مساحة أسطر قليلة في مجال الخبر العاجل، منذ انعقاد قمة بيروت عام 2002 وإقرار المبادرة العربية للسلام التي قدمت يومها كآخر فرصة عربية لتحقيق السلام، وفقا لمعادلة التطبيع الشامل مقابل السلام الشامل. يومها جاء الخبر العاجل من أرييل شارون رئيس حكومة تل ابيب آنذاك، وآخر ملوك إسرائيل كما يصفونه هناك، عندما قال إن المبادرة العربية للسلام لا تساوي قيمة الحبر الذي أنفق على كتابتها، وأتبع إهانته الوقحة للعرب وقادتهم بإصدار الأوامر لدباباته وجرافاته باقتحام مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله، واقتلاع مخيم جنين على إيقاع مجزرة مدوية، ولم يجرؤ العرب على الرد بإعلان ضياع الفرصة وبالتالي سحب المبادرة، ولم يتجرأ المجتمع الدولي على إبقاء قراره بتشكيل لجنة تحقيق في مجزرة جنين، وكانت الحصيلة أن قررمجلس الأمن الدولي سحب قرار تشكيل لجنة التحقيق بالمجزرة نزولا عند رغبة إسرائيل وبقيت المبادرة العربية على الطاولة. مضمون المبادرة العربية للسلام هو مقايضة الحق العربي التاريخي بفلسطين المحتلة بقبول تسوية تعيد جزءا من الأرض هو ما جرى احتلاله عام 1967، وضمان عودة اللاجئين تحت الإحتلال في ما تبقى من الأرض، وقبول تقاسم القدس كعاصمتين لدولتين، مع انسحاب إسرائيلي شامل من الأراضي اللبنانية والسورية، وتنال إسرائيل إذا قبلت هذا الكرم العربي الناتج عن الواقعية، كرما إضافيا بتطبيع يتعدى الدول المسماة دول الطوق والمعنية مباشرة بالنزاع، ليشمل التطبيع ما كان يسميه شيمون بيريز الحلم الإسرائيلي بالتطبيع مع دول الخليج ودول المغرب العربية، وكان جوهر السياق الذي تطرحه المبادرة هو تخيير إسرائيل والمجتمع الدولي بين قبول علني وواضح المبادرة أو إغلاق أبواب التفاوض، وتحميل المجتمع الدولي الذي أضنى العرب أنفسهم بشرح مضمون وتفاصيل المبادرة أمام دوله الكبرى والصغرى، مسؤولية اندلاع النزاع وإنسداد أبواب السلام، وتحميل إسرائيل مسؤولية ضياع الفرصة التاريخية وترك المنطقة مشرعة على كل إحتمالات التصعيد. بدأت إجتماعات الجامعة العربية منذ ذلك الحين تبهت وتفقد بريقها، عندما ابتلع العرب جوهر ما قامت عليه مبادرتهم، وقالوا سنعطي الفرصة الأخيرة مرة أخرى، وقدموا تعديلا جوهريا لمبادرتهم مضمونه الإكتفاء بإعلان إسرائيل ومن ورائها المجتمع الدولي أن الهدف النهائي للتفاوض هو تطبيق المبادرة العربية للسلام، وإستمر التجاهل الدولي والإسرائيلي وتابع العرب تعديل المبادرة وجوهرها، بإعلان القبول بإعتبار مبادرتهم نقطة إنطلاق المفاوضات وليس نهاياتها، واستمر التجاهل وتابع العرب كرمهم بإعلان القبول باعتبار المبادرة واحدة من نقاط انطلاق المفاوضات، وضمنوا تعبيرا عن كرمهم الزائد هذا التعديل بقبول ضمني بفصل مسارات التفاوض، وتركوا لإسرائيل اختيار المسار المفضل وتغييره بين جولة وأخرى، فكانت جولات التفاوض التي اتتهت دون تقدم وعاد التجاهل، فعاد الكرم العربي بنسخته المنقحة لربط التفاوض دون شروط مسبقة، أي دون أن تكون مبادرتهم لا نقطة بداية ولا نقطة نهاية للتفاوض، مقابل شرط واحد هو وقف الإستيطان، ثم قالوا بتجميده ،ثم عدلوا واكتفوا فقط بتجميد ما يزيد عن النمو الطبيعي للمستوطنات، ومكيال الفارق بين الحالتين إسرائيلي طبعا. عادت المفاوضات وحقق العرب إنجازا بأن شروطهم جرت تلبيتها، وكما في كل مرة صدر البيان العربي مذيلا بعبارة هذه هي الفرصة الأخيرة، ولم تكن واحدة من الفرص الأخيرة فرصة أخيرة حقا، حتى أصاب العرب ما أصاب الراعي الكذاب الذي حذر مراوغا كل مرة أهل بلدته من ذئب قادم يهدد أغنامهم، ليكتشفوا كل مرة انه مخادع، ولما جاءهم الذئب فعلا وصرخ الراعي ونادى حتى أعياه النداء، لم يستجب لندائه أحد فأكله الذئب وأكل الغنم . معلوم أن الإستيطان الذي يجري الحديث عنه اليوم والمطروح على جدول اجتماع الجامعة العربية، هو الإستيطان الذي ولد في ظل التفاوض وليس في ظل الإحتلال ،ففي ظل الإحتلال كان حجم البشر والجغرافيا في الكتل الإستيطانية 5% فقط من حجمه الراهن ،الذي تضخم مع بدء المفاوضات قبل عقدين. ومعلوم أيضا أن دخول الإستيطان كقوة سياسية صاعدة مشاركة ومقررة جرى أيضا في ظل التفاوض وليس في ظل الإحتلال، فكل الكتل السياسية والبرلمانية الإسرائيلية المستندة إلى أصوات المستوطنين ولدت في ظلال العقدين الماضيين وليس قبلهما . والمعلوم، أو الذي يفترض أن يكون معلوما، أن مصير الإستيطان يختصر على الأقل ثلاثة ملفات حاسمة في عملية السلام والتفاوض الجاري في سياقها، فتهويد القدس واقتلاع السكان العرب منها وحفريات المسجد الأقصى كلها في قلب ملف الإستيطان، ومنها يتقرر مصير القدس، هل ثمة نية إسرائيلية ودولية لدولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية ؟ لأن من لا يصر على تجميد الإستيطان في القدس ويمضي في توسيعه وتدعيمه بخطة الاقتلاع والتهويد يقول علنا إنه ماض في الوصول إلى قدس لا مكان للعرب فيها، وكذلك في ملف الحدود فمن لا يقبل بتجميد الإستيطان داخل الضفة الغربية ليس واردا عنده القبول في سياق التفاوض بتفكيك المستوطنات، التي باتت تشغل مع ملحقاتها الأمنية والخدمية ما يقارب ال40% من مساحة الضفة الغربية، وبالتالي ليس في حسابه على الإطلاق الحديث عن انسحاب إلى ما وراء حدود عام 1967، وكذلك أيضا من لا يقبل تجميد الإستيطان لا يمكن ان يكون جاهزا لقيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيا على أجزاء من الضفة الغربية ،وهي جغرافيا يستحيل تحقيقها واتصالها دون اقتلاع مستوطنات أساسية وتفكيك أجزاء أساسية معها من جدار الفصل العنصري، كما وصفته محكمة لاهاي الدولية للعدل. من يرفض تجميد الإستيطان يعني بالقول تحت باب مقايضة الجغرافيا، المطروح كبند تفاوضي رسمي، إن المعروض للمقايضة أكبر بكثير من المستوطنات التي بنيت قبل عام 1990 وبدء مسيرة التفاوض، أي فقط ما يقارب ال5% من مساحة الضفة الغربية، بل يريد أن يقول إن المستوطنات باقية وهي جزء من الجغرافيا النهائية لدولة إسرائيل، وتعالوا نقايض القدسالشرقية ونصف الضفة الغربية بمساحات من صحراء النقب تؤمن التواصل مع قطاع غزة، ولتكن العاصمة في مكان وسط بين النصف الجنوبي من الضفة الغربية وشريط من النقب يتصل بقطاع غزة، يتقاطع عبر نفق مروري مع الطريق السريع الذي يربط بئر السبع بتل أبيب، وهذا هو المشروع الحقيقي لتفاهم أمريكي إسرائيلي توافق حوله بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان مع جورج ميتشل وصاغه مارتن أنديك. من يحظى بالتغطية الدولية لعدم تجميد الإستيطان يحظى عمليا بالتغطية لمشروع دولة فلسطينية تقوم على اقتلاع نصف المدن الفلسطينية إلى الجنوب بدلا من اقتلاع المستوطنات إلى الغرب. من يقبل بالعودة للتفاوض دون تجميد كامل للإستيطان يمنح جواز مرور سريع لمشروع مختلف عن المبادرة العربية للسلام شكلا ومضمونا، مشروع لا مكان فيه للقدس ولا لعودة اللاجئين ولا للأراضي المحتلة عام 1967 . اجتماع الجامعة العربية سيكون خبرا عاجلا لأنه سيكون المفصل بين وقف التفاوض بشرط وقف الإستيطان، وبين إعلان التخلي عن المبادرة العربية تحت بند الفرصة الأخيرة، وهي فعلا الفرصة الأخيرة للعرب ليختاروا، بين كرمهم الزائد وكرامتهم المنتقصة.