مثلما عاشت مدينة بنزرت معركة الجلاء الخالدة وصوّرت بها ملحمة شعب بأكمله... ومثلما أنجبت الحبيب بوقطفة، وحسن النوري، ومحمد البجاوي الذين كان لهم دور ريادي في حركة التحرير الوطني، فهي تكرمت علينا حين أنجبت أحد أبرز عمالقة الفن والأغنية التونسية عم خميس الترنان الذي ذاع صيته في العالمين العربي والغربي بفضل ما قدمه من إنتاجات غنائية مازلت مزهرة في الذاكرة... خميس الترنان صنع أجيالا من الموسيقيين والفنانين الذين وإلى حد الساعة يعترفون بعبقرية الرجل وجميله عليهم... فلولاه ما كان للرشيدية حضور... وللمالوف ظهور... ولولاه ما كنا لنسمع بصالح المهدي... والطاهر غرسة وشافية رشدي... وصليحة وما وجدنا في سجلاتنا وتسجيلاتنا أسماء قد لا يصدقها متلق، فهو يجهلها ولم تطرق أذنيه أغنية واحدة لهم،والحقيقة أنهم تركوا لنا العشرات من الأغاني الحلوة والجميلة... وسامح الله المشرفين على مؤسسة شارع الحرية الباحثين عن تفاهات الفن ونفايات سوقه متجاهلين كمّا مهما من الإبداعات لأبناء تونس، الكاف، سليانة، الساحل والجنوب هناك أينعت الأصوات، وهناك نشأ الإبداع وترعرع... وهناك أيضا رافق الإقصاء والتهميش مبدعي تلك الربوع... ففي مثل هذه الأيام من شهر أكتوبر يداعبنا الحنين للاستماع إلى أنين العود... إلى حلاوة الفن والغناء الجميل إلى عم خميس الترنان الذي رحل عنا عن سن تناهز 74 عاما... نشأته رحمه الله ولد الفنان الفذ خميس الترنان بأحد أحياء مدينة بنزرت القديمة سنة 1890 فعائلته تنحدر من جذور أندلسية عندما نزح أفرادها من الأندلس إثر سقوط غرناطة عام 1492 آخر القلاع هناك استقرت ببلاد المغرب الأقصى فعرفت بلقب عائلة «الغلاب» ثم رحلت إلى الجزائر لتعرف بلقب الزواوي... الذين عاد البعض منهم للعيش ببلادنا... أما في تونس فقد لقبت نفسها ب«الترنان» وهي عائلة صغيرة لحلاوة أصوات أفرادها وولعهم بسفائن المالوف، التي حملوها عندما غادروا بلاد الأندلس هروبا من جحيم المحاكم الإسبانية وألوية التفتيش لمطاردة العرب والمسلمين الذين عرفوا انذاك باسم «مورسكس» أي العربي ومنه اشتق لقب عائلة مورو... ومنه الحمام العربي.. إلخ.. فلا بأس أيضا أن نورد بعض الألقاب التي تعيش معنا في مختلف جهاتنا من ذلك المالقي نسبة إلى مالقة... والأندلسي من الأندلس وحتى الإشبيلي الذي يوجد بكثرة في كل من المغرب والجزائر.. وسوريا ومن يذكر إشبيلية حتما ستدغدغ حواسه وذاكرته أحلى صورها ولياليها، التي تغنت بها الفنانة فتحية خيري أو خيرة اليعقوبي (19161986). إلا أن خميس الترنان فقد حافظ على لقبه الأصلي مع جرسه الموسيغنائي... ذلك أنه بدأت عليه علامات النبوغ في الغناء ناسجا على منوال أعمامه الذين كانوا نساجين وأبرزهم على الإطلاق في حي الأندلس... وقد كان الكاتب والمؤرخ والزميل الصحفي رشيد الذوادي سباقا في الحديث عن طفولة خميس الترنان وتعداد خصاله وسيرته الذاتية مشيرا إلى أنه تتلمذ على يدي الأديب والمربي الفاضل المرحوم عبد الرحمان قيقة (18811960) وهو والد الأديب الكبير الطاهر قيقة (19221993) ابن قرية تكرونة القريبة من مدينة النفيضة بالساحل التونسي... بداية رحلته مع الموسيقى كان الطفل خميس الترنان يحلو له العزف على آلة «الفحل» الحديدية في ساحة المدرسة الفرنكو عربية التي شيدها المرحوم علي الخماسي عام 1903 وهو عميد عائلة آل الخماسي التي ينحدر منها الخطاط الشهير محمد صالح الخماسي صاحب يوميات الحبيب وأستاذ الخط العربي بمدرسة الفنون الجميلة ومعهد الموسيقى والتمثيل الذي كان مقره بنهج زرقون بالعاصمة، ومن المفارقات العجيبة أن يتخلف خميس الترنان عن ذلك المعهد لتلقين طلبته أصول غناء المالوف الأندلسي غداة تونسته سنة 1958 وتولى الدكتور صالح المهدي إدارته عندما ألحق ذلك المعهد إلى مصالح وزارة الثقافة عند انبعاثها سنة 1961 على يدي الأستاذ الشاذلي القليبي، لكن الفنان خميس الترنان لم يقتصر على دروسه بمعهد نهج زرقون الذي كان يأوي الفرقة القومية للفنون الشعبية عند إحداثها سنة 1962 وإنما كان يتولى نفس الخطة بالرشيدية ثم تحول إلى الإذاعة لتلقين مجموعتها الصوتية في عام 1958 كامل نوبات المالوف وعددها 13 نوبة تولى تدوينها بمفرده وبالنوتة الموسيقية الفنان العميد محمد التريكي (18991998) فتولى الموسيقار عبد الحميد بلعلجية (19312007) الإشراف على تسجيلها إذاعيا... ليضيف إليها النوبة الرابعة عشرة التي لحنها خميس الترنان... وأطلق عليها نوبة الخضراء... احتفاء بالذكرى الأولى لعيد الاستقلال ويعتبر ابن عاصمة الجلاء هو الفنان التونسي الوحيد الذي لحن نوبة كاملة الأجزاء من المالوف ذلك الإرث الحضاري العربي الأندلسي... اكتشافه للأصوات تبعه تلميذه الدكتور صالح المهدي الذي لحن هو الآخر نوبة مالوف تونسي في مقام فارسي يعرف بمصطلح مقام العجم الموازي للمقام العربي غير أن خميس الترنان لم يقتصر على تلحين تلك النوبة التي ألفها الشاعر الطاهر القصار متغزلا بجمال معالمنا السياحية ومآثرنا التاريخية وإنما ضرب بسهم صائب في كل الأنماط الموسيقية والغنائية مثل النوبة والموشح... والزجل والأناشيد المدرسية ومجموعة كبيرة من الأغاني العاطفية والدينية وتناول عددا كبيرا من أحلى وأجمل الأصوات التونسية أداء تلكم الألحان الساحرة مثل السيدة نعمة والمرحومة علية وفنانة كل الأجيال صليحة (19141958) التي ظفرت بنصيب الأسد من ألحان خميس الترنان... لعل من أهمها «أم العوينة الزرقة» التي أقحمها سمير العقربي في نوبته.. كما لحن خميس الترنان للمطربة الراحلة بشيرة التونسية التي لا نسمع صوتها إلا مرة واحدة في العام خلال احتفالنا بذكرى المولد النبوي الشريف عندما تتكرم علينا إذاعاتنا ببث تلكم المديحة النبوية «زاد النبي» والحال أن لبشيرة أكثر من أغنية... لكن هيفاء وهبي ورولا سعد وميريام فارس لم يتركن الفرصة لخيرة فنانينا وأصواتنا التونسية الرائعة، فلتحيا إذاعاتنا وليحيا منشطونا ومقدمو البرامج ومعدوها، الغريب أن لا أحد في الوسط الفني لا يعرف اسم مطربة تدعى بشيرة فلماذا لا تتفضل مؤسسة الإذاعة والتلفزة على مستمعيها ومشاهديها بالنبش في ذكريات بشيرة التونسية حتى تعرف الأجيال وأهل الفن بالذات بمبدعينا وما أكثرهم، أليس ذلك تقصيرا وظلما يا عباد الله!