ولكن الدرغوثي لا يظهر الواقع في جداره واقعا مستبدا يذكّر بتاريخ عتيد وطويل في اضطهاد الكائن البشري والتعسف عليه كخلافة الوليد بن يزيد الأموي ، إنما هو واقع فني تشكل وفق نفسية البطل المهزوزة نتيجة خوفها المتفاقم من عدم تناسب مقالها (المطالبة بمنزلة اجتماعية مرموقة) بمقامها (عدم امتلاك مؤهلات أكاديمية بل شكلية). وقد بدا ذلك واضحا للعيان فكلما «اقترب أحد الرجال من المدخل رأى وكأن رمحين متقاطعين يسدانه، ثم وكان يدا تندس داخل جوفه تخرج منه قلبه، تنظر فيه مليا..». لا يعدم الدرغوثي بذلك تقنية فنية ونواميس كتابية مبدعة كلما يمّمنا صوب دلالات جداره العالي، مما يثبت القول بأننا إزاء لا راو عليم، بل كاتب خبير، عالم بخصوصيات الجنس الأدبي القديم والحديث على حد السواء ، متفننا أبدا في الإمساك بخيوط قصصية انزاحت فيها الكتابة هذه المرة ناحية كتاّب القصة القصيرة العربية ، فما التداعيات النفسية والتهيؤات الداخلية التي استبدت بالبطل، وهذا الإطناب المقصود في تصوير الشخصية متردية في مهاوي ثنائية قديمة، هي ثنائية الترغيب والترهيب، الترغيب في تحقيق الأمل والترهيب من مزالق الفشل ونتائجه المحسومة، سوى استحضارا لأهم خصوصيات القصة القصيرة مع يوسف إدريس الممثلة في الوصف النفسي الذي يستبد بالشخصية التي يتلون المكان والزمان وفق الحالة النفسية التي تعيشها تلك اللحظة. ويشترك الدرغوثي مع يوسف إدريس في الحالة النفسية التي كانت تخلخل الشخصية، وما حالة الشاب النفسية في مستوى علاقتها بالمكان ومشتقاته من حضور وحراس ليست سوى تفريعا عن الأصل (لسنا نقصد بذلك الكاتبين «يوسف ادريس وإبراهيم درغوثي» لأن كل واحد يشكل في سرد موطنه أصلا تتأصل منه فروع) ، أي عن شخصية ادريس في اليد الكبيرة، فاحمد الابن الأكبر بمجرد وصوله قريته وقد تناهى إلى مسامعه خبر موت والده تحول المكان نفسيا إلى لون اصفر يوحي بالحزن والموت، ترجمته أحاسيسه المكلومة فتداعت الأحداث طويلة يتنصل فيها الزمن من فيزيائيته ليتحول زمنا نفسيا تتطاول معه اللحظات وتتمطى الدقائق وهو ينتظر رجوع أمه وأهله من المقبرة بعد دفن أبيه. بهذا الشكل الفني ينزاح الوصف المادي للشخصية في الجدار العالي لصالح الوصف النفسي الذي لم يخضع لنفسية البطل فحسب ، بل إلى نفسية القاص نفسه الذي شارك بطله قلقه النفسي فاستبد به الخوف من أن يخسر بطله حظوظه الواقعية في لحظة آزفة يقرّر فيها مصيره بنظرة تطلّع أو جرة قلم . لكن الدرغوثي يعرج بهذه اللحظة وفق منطق نفسي إلى زمن سرمدي لانهائي يتصل بأهوال القيامة ، وهو موقف داخلي تداعت له هواجس وخواطر كثيرة تلبست الشخصية لتحف بصورة هذا اليوم، فذكّر بهول المحشر ومدى تأثيره في الخلائق وهم نشور للحساب. والحساب الذي يستحضره الكاتب أثقل وطأة واشد على صاحبه، انه حساب الواقع. وما البشرية المتجمعة للحشر في فضاء الجدار العالي سوى جمع الرجال المحترمين ومن بينهم الشاب بطل أقصوصتنا المتجمعين أمام مدخل البناية العالية لاستكمال مراسم المواجهة التي تمثل بالنسبة إلى الشخصية المنتظرة امتحانا عسيرا ويوم الامتحان يكرم المرء أو يهان. ولم يفوت الدرغوثي على نفسه تأريخ وقائع هذه اللحظة التي تجمّع فيها الممتحنون تجمع الخلائق يوم القيامة بين حضرة الذات اللاهية للثواب أو للعقاب مستغلا ما حفظته بطون كتب الحديث والتفسير ومستحضرا ما ترسخ من أفكار في المخيال الشعبي حول هول هذا اليوم الذي تبدأ أول مراحله بانتزاع الروح من جسم الإنسان وصولا إلى لحظة البعث والنشور فالحساب والجزاء. وقد وفق الدرغوثي في اقتناص مدى تأثير مجريات هذا الحدث الجلل في العقول ووقعه في النفوس لان غايته تتجاوز استعراض ثقافته حول الغيبيات أو كتب التفسير ، بل غاية منهجية تولد فيها اللحظة الواقعية من مجمل الصورة التراثية، فجعل من بطله يعيش صحبة مرافقيه هولا لا يتقاطر عليهم من السماء بل يلفح وهجه وجوههم من المدخل الأمامي لبناية الجدار العالي ، حتى لكأننا أمام أبي الحارث المحاسبي في توهمه أو أبي العلاء المعري في غفرانه. إلا أن الاختلاف وارد بين هذا وذاك فالمحاسبي جعل الفعل «توهم» لازمة سردية تقرع أذان متلقي خطابه،والمعري كان سؤاله بم غفر لك؟ فخطابه تحسب له الشخصية المستفهمة ألف حساب، وأما الدرغوثي فجعل من فعل المحاسبي وسؤال المعري واقعا تعيشه شخصيته ليكون الحشر واقعيا، حدوده دنيوية تتمثل في مدخل البناية الضخمة الذي كان شاهد عيان على هذا البعث النفسي الواقعي الذي عاشته الشخصية في لحظات متنصلة من ميقاتها الفيزيائي ، مشرئبة عقارب ساعتها أمام لجنة الانتخاب، انتخاب الأكفاء من الشباب لتشغيلهم أو لانتدابهم في مراتب عليا كل حسب رغبته وحسب مؤهلاته، فلأمر موكول للدرغوثي باعتبارها شخصياته القصصية، التي حفظ لها أسرارها وأبقى على خصوصيتها إمعانا منه في التمويه تاركا عنان تأويل دلالاته إلى القارئ والسامع معا، فاقتصر على تأطير أحداثه دائما بالجدار العالي وما يدور تحت ظله من ممارسات واقعية، وليكرس إحدى خصوصيات كتابة القصة القصيرة من وجهة نظر حديثة مفادها أن الأقصوصة تقوم على عنصري الإيجاز والتكثيف باعتبارها وحدة عضوية تقوم على عقدة كثيرا ما يسارع بها كاتبها نحو الانفراج، ولكن الدرغوثي لا يفرّج كرب بطله ولا يمنحه حق استرداد الأنفاس لما مر به من تعب نفسي ومادي طويل، فيزج به في مقاربة فنية يُجاور فيها ابن القارح في غفران المعري ويدعوه فيها شاهد عيان على العذاب الذي يترقبه، وكأنه عين أبي العلاء المتخفية وراء فعل القص لتستبطن دواخل علي بن منصور الحلبي وتترصّد ردود أفعاله من بعيد لحظة جعله يطل على النار ويطّلع على أحوال معذّبيها من الأدباء والشعراء ومن الجن والشياطين أمثال صخر وبشار بن برد و إبليس الذي اغتاظ من وقاحته وهو يسائله في فضاء لا يحس بتأثيراته سواه. ويقول الكاتب وقد جعل بطله يعايش الوقائع الغفرانية نفسها في نفس ديني جدّي «وتنقدح نار عند تقاطع الرمحين تكاد لا ترى بالعين المجردة ... فتهوي على قفا الرجل يد غليظة فيسقط على وجهه سقطة لا يعلم طولها إلا الله» (قالك ساعتها يكون سي خونا شاف مكانه من النار لان الرجل حين يقف من سقطته تكون ملامحه قد تبدلت كثيرا ووجهه شاب وشعر رأسه)... وهنا درجات الفزع متنوعة فمن بين الرجال من يعول كالثكالى ومنهم من يولول ولولة الصبيان، ومنهم من يكثر الهنهنة ومنهم من يكتفي بإظهار الخوف والفزع دون أن يعبر عنه بصريح العبارة.