تولت جريدة «الشروق» في عدديها الصادرين بتاريخ 5 و12 أكتوبر 2010 نشر حوار مع الأستاذ الصادق بلعيد حول كتابه الجديد «القرآن والتشريع» وقد جاء في هذا الحوار أن التشريع الاسلامي كان عرضة للعديد من التأثيرات على مر الزمن الى حد أنه وقع التحجر في أحكامه بمنأى عن الأصل معتبرا أن الفقه الاسلامي التقليدي قد احتكر تفسير القرآن في حين أن الظروف قد تغيرت بصفة جذرية منذ نزول القرآن الى يومنا هذا وهو ما يسمح بقراءات جديدة تأخذ بعين الاعتبار المقاصد دون التقيد بالنص، كما تضمن الحوار أن باب الاجتهاد مفتوح حتى للمتحصلين على الاجازة في الحقوق مضيفا أن الامام الشافعي لا يمكن أن تكون له معرفة أوسع من الباحث المعاصر في القانون والتشريع مناديا أن يقع تكسير هذا الاحتكار من قبضة من يدعون أنهم وحيدون في فهم القرآن الكريم متوصلا الى أن «تفسير المبادئ الأساسية الكونية للقرآن ليست حكرا على أي ممن يدعون العلم أو الفقه» مستخلصا من تفسيره الشخصي للقرآن اقتضاب التشريعات الجزائية التي وردت فيه والتي اعتبرها غير مكتملة وعاجزة عن استيعاب شواغل المسلمين اليومية. كما أشار الاستاذ الصادق بلعيد الى أن القرآن والسنة لم يأتيا بتشريعات مفصلة تكفي المسلمين البحث عن تشريعات جديدة بل ان القرآن اقتصر على إقامة الحد في جرائم معينة كالزنا والسرقة والقذف مستخلصا أن القرآن الكريم لم يأت بأحكام خارجة عن هذه الحدود وحتى بالنسبة لجريمة الزنا فان هنالك بعض الفقهاء يتمسكون بأن الآية التي نصت على الحكم بالرجم قد رفعت وهو ما يخلق اليوم تناقضا بين الآية المذكورة حاليا في القرآن والتي نصت على الجلد وما يقع من اقامة للحد في خصوص هذه الجريمة في بعض المجتمعات الاسلامية. هذه الافكار تفرض بلا شك ابداء الرأي في شأنها قصد توضيح بعض المفاهيم فيدرك القارئ ما تنطوي عليه هذه الأفكار من مغزى وما قد يترتب عنها من تبعات حتى لا تضيع في خضمها الثوابت. إن الشريعة هي ما شرعه الله لعباده من الدين وأمر به من العبادات ونظم به المعاملات والتي أتمتها السنة عملا بما جاء في قوله تعالى في صورة الجاثية اذ جاء بالآية 18 {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُون}. ومن المؤكد أن القرآن يشتمل على أحكام في عدة مجالات بل في كل المجالات فمنها ما يتعلق بشؤون الأسرة ومنها ما يتعلق بالمعاملات المدنية والتجارية ومنها ما يهم الجرائم وحدودها ومنها ما يهم الأمور السياسية وهو ما يؤكده قوله تعالى في الآية 38 من سورة الأنعام {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ اِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}. فالقرآن قد شمل كل جوانب الحياة بما فيها الجانب الاقتصادي اذ أنه كرس مبادئ المجتمع الرأسمالي الذي يقوم على أساس حرية المبادلات ولكن دون غلو باعتبار أن العنصر البشري يبقى هو العنصر الاساسي والجوهري في أي معادلة اقتصادية وهنالك العديد من الآيات التي كرست هذا الاتجاه كقوله تعالى في سورة الشعراء الآية 151 {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}. كما أكد القرآن على ضرورة اتباع منهج الكسب الحلال اذ جاء في سورة الجمعة الآية 9 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا اِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ اِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. كما أكد الله تعالى في سورة النور في آيتها 37 على عدم الاسراف والجشع في السعي الى المال اذ جاء فيها {رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَاِقَامِ الصَّلاةِ وَاِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}. كما جاء في القرآن تكريس للعديد من القواعد التي تنبذ الكسب الحرام وتقاومه فجاء في سورة النساء قوله تعالى في الآية 10 {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا اِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، كما شدد تعالى على ضرورة اتباع منهج أخلاقي في المعاملات وذلك في سورة النساء اذ قال الله تعالى في الآية 29 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ اِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاض مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ اِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، كما تدخل القرآن ليحدد حتى بعض جزئيات التعامل اذ جاء في سورة المطففين {ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}. كما حرّم الله تعالى الربا ونهى عنه نهيا مطلقا وعموما فإن القرآن الكريم ولئن لم يتطرق الى جميع تفصيلات التعامل الاقتصادي فإنه وضع اللبنات الأولى للمعاملات الاقتصادية السليمة والتي تنبني على تشجيع المبادرة الفردية دون اهمال للجانب البشري الأخلاقي كما أكدت السنة ضرورة احترام حقوق العامل وفي هذا السياق نذكر ما جاء على لسان الرسول الكريم {آتوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه}. فالفلسفة الاقتصادية التي جاء بها الاسلام قوامها بلا شك النظرية الرأسمالية مع اضفاء الطابع الانساني عليها وهي فلسفة غابت عن الفكر الرأسمالي الحديث الذي أصبح يبحث من جديد عن الآليات التي توفق بين نهم الرأسمالية والحقوق الاجتماعية للعمال الذين يشكلون رأس المال الاجتماعي للمؤسسة. وعموما فإن القرآن كتاب جامع يشتمل على الأحكام التي تنظم جوانب الحياة وقد اختلفت المذاهب في تناولها لهذه الأحكام فمنها من ركز على ظاهر النص ومنها من اعتنى بالمقاصد وتجاوز النص ومنها من حاول التوفيق بين النص والمقصد . أما المدرسة الأولى فهي كما ذكرنا مدرسة تمسكت بظاهر النص فاعتنت بالأحكام الجزئية وتشبثت بها بمعزل عما قصده الشرع وهذه المدرسة التي كرست الاتجاهات السلفية لها خصائصها وآثارها في الفقه الاسلامي فقد اتجهت نحو التشدد وكان أصحابها متمسكون بآرائهم الى حد كبير وينكرون بشدة كل رأي مخالف وقد أدت مغالاتهم الى اثارة الفتن الدينية والمذهبية كما عرفوا بتكفيرهم للشيعة وبمواقفهم «العدائية» لليهود والنصارى وقد أدى تحجرهم الى الكثير من المواقف الغريبة الى حد أنهم أفتوا بتحريم مشاهدة التلفزة لا لأنها تبث برامج محظورة بل لأنها قائمة على تصوير وتجسيد ذوي الأرواح، كما حرموا الموسيقى والمسرح وسائر التعابير الثقافية. يصرّ دعاة هذه المدرسة على التمسك بدونية المرأة وعدم الأخذ بشهادتها وضرورة ارتدائها للنقاب وقد انتشرت اليوم أفكار هذه المدرسة لدى فئات متعددة يغلب على البعض منها الطابع الديني وعلى البعض الآخر الطابع السياسي ولا خلاف أن تشددهم من شأنه أن يضر الاسلام والمسلمين ضررا بليغا فيشوه صورة المسلم لدى الرأي العام غير المسلم ويبدو ذلك واضحا في قضايا المرأة والأسرة وقضايا الحرية وحقوق الانسان فهم يدعون الى منع المرأة من العمل وان كانت هي أو عائلتها في أمس الحاجة اليه وهم لا يقبلون أن تشارك المرأة في الانتخابات وهم يرفضون الاقتباس من غير المسلمين معتبرين ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة . كما يرى دعاة المدرسة السلفية أن الديمقراطية منكرا يجب مقاومته وأن أخذ القرارات بالاغلبية بدعة يجب الابتعاد عنها، وعموما ينصب اهتمام أنصار هذه المدرسة على الشكل دون المضمون فيحرصون على أن يطيل الرجل لحيته وأن تضع المرأة النقاب على وجهها أكثر من حرصهم واهتمامهم بأركان الاسلام الجوهرية الامر الذي يؤكد أن الاتجاه السلفي الذي يعتمد ظاهر النص هو من أشد المذاهب تشددا فهذه المدرسة متنكرة تماما لدور العقل رافضة مبدأ الاجتهاد والتحديث. بقلم: الأستاذة ريم قحة الحملاوي