لمدّة يومين، ومن خلال ستّ جلسات أثّثها باحثون وسياسيون ومفكّرون من تونس ومن المغرب ومن مصر، أمكن للمتابعين للندوة السنوية الثانية، لمجلّة «رؤى» لصاحبها الاستاذ رضا الملّولي عضو مجلس المستشارين، أن يقفوا على واقع وآفاق فئة حيويّة لدى كل المجتمعات: فئة الشباب وسبل تعاطيه مع الشأن العام... من تونس نحو بلدان العالم، ومن تجارب هذه البلدان نحو تونس، بدت المقاربات والمطارحات الفكرية والبحثية تنبش في مبادئ القانون وفي التاريخ وفي الحضارة وفي مبادئ الفلسفة وواقع الحال، حول العنوان الرئيسي للندوة: «الشباب والشأن العام: في سبيل مواطنة فاعلة ودائمة». عضوا الحكومة، اللذان تولّيا الافتتاح والاختتام، شدّد كل منهما على خيارات الحكومة التونسية تجاه هذا الملف مؤكدين على أن رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي، ما فتئ يولي الشباب في بلدنا، عناية نوعية تجسّدت في القرارات والخيارات التي أقرّت طوال العشريتين المنقضيتين. ففي جلسة الافتتاح، شدّد السيد سمير العبيدي وزير الشباب والرياضة والتربية البدنية، على أن الحديث عن الشباب كفئة مهمّة مكوّنة للمجتمع، ومدى مشاركته في الحياة العامة، ليس من منظور سياسي ومشاركة سياسية فقط، بل مشاركة الشباب في المجتمع المدني، ضمن الجمعيات... أسوة بما ركّز عليه الرئيس زين العابدين بن علي، على أساس أن الشباب هو فئة استراتيجية وفئة وقّادة في المجتمع، مؤكّدا على أن مقاربة الرئيس بن علي لا تعتمد السيطرة على هذه الفئة بل سياسة المرافقة، كمنهج «La politique dللهapos;accompagnement». أما السيد أسامة رمضاني وزير الاتصال، وقد اختتم الندوة التي تواصلت يومي الاربعاء 10 نوفمبر والخميس 11 منه، فقد شدّد على أن عناية الرئيس بن علي بالشباب تعود الى بداية التحوّل، حين انطلقت في تونس إذاعة الشباب، وقبلها «قناة 21» التلفزية، وأن عناية الرئيس بفئة الشباب ليست وليدة هذه السنة، التي يعدّ خيار الاطلاق عليها السنة الدولية للشباب، استجابة لما كان ولا يزال ينادي به الرئيس بن علي، بخصوص ايلاء العناية الكافية لهذه الشريحة العمرية... حتى تسهم بنشاطها وحيويتها في النهوض بالأوطان... رئيس تحرير مجلّة «رؤى» والمدير المؤسس لها، الاستاذ رضا الملولي، ضمّن كلمته الترحيبية بالحضور وبالمشاركين، أهداف هذه الندوة، مشدّدا على أهمية التنوّع وتعدّد الآراء، مثلما تعكسه المشاركة والحضور في هذه الندوة... من عمق الحضارة العربية الاسلامية، تحدّث الاستاذ الشاذلي القليبي عضو مجلس المستشارين، والأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، عن الشباب والشأن العام عبر مداخلة شدّت الحضور وقد اختار لها عنوان: «منزلة الشباب في مشروعنا الحضاري» من ذلك ان الأستاذ الشاذلي القليبي انطلق من اشكالية اختزلها سؤال حيرة: هل ان مجتمعاتنا العربية مؤمنة بحضارتها، اي الحضارة العربية الاسلامية؟ وواصل التساؤل والنبش في الذهنية والفكر العربيين، وتعاطي الانسان العربي مع مقوّماته وانتمائه الحضاري: هل ان الجميع معتزّ بالانتماء الى هذه الحضارة العربية الاسلامية؟ مؤكدا على حقيقة أدركها العارف بشؤون هذه الأمة: ان الاسلام في ذهن أكثرية الشباب العربي، هو مقطوع ومنفصل عن الحضارة.. ليجيب في نفس السياق عن التساؤل الذي وضعه وعلى الرصد الذي توصل اليه،الأستاذ القليبي ان الاسلام دين وحضارة... يدعو الى الاهتمام بشؤون الدنيا كأنها باقية ودائمة أبدا.. وعرّج السيد الشاذلي القليبي على أن الاجتهاد يعدّ في الاسلام، من أوكد الواجبات حيث حضّ الدين الاسلامي على العلم «ولو في الصين».. مشيرا الى اعتناء الاسلام بمبادئ مثل التضامن بين المجتمع الواحد.. والشورى في الحكم لدوام التقدّم الحضاري... كاشفا النقاب عن أن اهتمام الاسلام بالمرأة وبحقوق الانسان كان مبكّرا بالنسبة الى حضارات أخرى، عايشت تلك الفترة التاريخية لمجيء الاسلام (القرن السادس ميلاديا). وأكد الأستاذ القليبي، على ما نعته ب «القوام بين المرأة والرجل... وبين الفرد والجماعة» مفسّرا كلمة القوام، وهي كلمة قرآنية وتعني الاعتدال، على أن فلسفة القوام تعني فلسفة الانشراح ايضا. وأكد صاحب المداخلة الحضارية بامتياز، اننا نعيش اليوم (كعرب مسلمين) ثنائية ثقافية لغوية تحتاج الى معالجة، معرّجا على أن جوهر الحداثة يعني ان يكون الانسان في مرتبة عالية من التكريم... من ذلك ان حضارة الاسلام نظّمت المدينة الفاضلة مدينة التعايش وتلاقح الثقافات وهي «قيم جديرة بأن ينظر اليها باحترام» يقول «سي الشاذلي القليبي» داعيا الى توعية شبابنا بأهمية هذه القيم... وجدوى الانتساب الى هذه الحضارة.. وهو ما يوقي شبابنا من التمزّق الذهبي... عندها سيكون شبابنا أقدر على حسن الانتماء... مؤكدا على أن الشباب يعني التطلّع بحماس الى المثل العليا لأنها تفتح امامه أفقا عليا.. فالشباب يختم الاستاذ الشاذلي القليبي، هو من يزاوج بين الحلم والأمل، لذلك فالدول العظمى أصبحت كذلك وقام لها شأن في التاريخ لأن الشباب فيها كان هو الرافعة.. أما الأستاذ منصر الرويسي، رئيس الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الأساسية فقد آثرتأثيث مداخلته التي حملت عنوان «الرهان الديمقراطي في مشاركة الشباب في الشأن العام» انطلاقا من تعريف اصطلاحي لمفهوم الديمقراطية ولمفهوم الشباب، حيث اطلق في بداية مداخلته سؤالين اثنين: ما المقصود بالديمقراطية وبالرهان الديمقراطي وما المقصود بالشباب (لفظا) والشأن العام ومشاركة الشباب فيه؟ ارتكزت مداخلة الأستاذ منصر الرويسي على تاريخية المفهومين: الديمقراطية والشباب والشأن العام... حيث انطلق من مقولة الفيلسوف اليوناني «بيريكليس» عند تأبينه لشباب أثينا الذين استبسلوا في حرب «البيلوبينيز» حسب رواية «توسيديد»: «كلنا يتعقل جيدا الانجازات الكبيرة التي حققها المحاربون بفضل المقاومة الباسلة التي أبديناها تجاه المعتدين... لذلك لست أرغب في الوقوف مطولا عند هذا الموضوع سأتخطاه للتساؤل حول طبيعة النظام الذي ضمن لنا كل هذه العزة وطبيعة مؤسساته وما السمة الغالبة على شخصيتنا والتي مكّنتنا من بلوغ ما نحن عليه من رفعه؟ انه الدستور (يواصل بيريكليس) الذي ينظّم حياتنا، ولأن نظامنا هذا يعمل على حماية مصالح القاعدة العريضة للمواطنين ولا يقتصر في ذلك على أقلية مرموقة، فقد أطلقنا عليه اسم «الديمقراطية».. من هنا انطلق الرويسي في تشريحه للمفهومين،ومدى تعاطي الشباب مع الشأن العام، جاعلا هذه الفئة في قلب الاحداث وفي قلب صنع القرار وفي قلب التحولات التي يمكن ان تطرأ على المجتمعات في اي حين... كما كشف الاستاذ منصر الرويسي ومن منطلق اختصاصه الحقوقي قدّم رصدا لما حظي به الشباب في الديمقراطيات الليبرالية، مثل فرنسا التي لم يتمكن فيها الشباب البالغين 18 سنة أن يرسّموا أنفسهم بالقائمات الانتخابية وفق هذا العمر، الا سنة 1997 في حين لم يتم الاستغناء مثلا عن شرط التعلم بالولايات المتحدةالامريكية (للمشاركة في الانتخابات من الأفراد) الا سنة 1965 بمقتضى قانون «Voting Rights Act»... وأكد أن «ظاهرة عزوف الشباب عن المشاركة في الشأن العام هي ظاهرة عالمية لا تستثني حتى الدول العريقة في الديمقراطية»... مشيرا الى ان العولمة والثورة والاتصالية خلقت مشاغل أخرى للشباب «ألهته عن الشغف بالسياسة» وبالشأن العام، حيث ملأت حيزا هاما من وقته... كاشفا النقاب عن ان الاستشارة الشبابية لسنة 2010 بينت ان نسبة الاقبال على الانتخابات لا تتجاوز 24.7٪ وأن نسبة المشاركة من الشباب في الأحزاب السياسية لا تتجاوز 3.5٪ وفي الجمعيات 2٪. ترأس هذه الجلسة السيد الهادي البكّوش الوزير الأول الأسبق عضو مجلس المستشارين... غدا رأي أهل الفلسفة وأهل التكنولوجيات الحديثة في موضوع الندوة... تغطية: فاطمة بن عبد الله الكرّاي