بلغة الواثق من قدرة بلاده على إدارة الأزمات وعلى ايجاد الحلول الناجعة لقضايا المنطقة تحدث رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن استعداد أنقرة لوضع كل ثقلها ولبذل كل جهودها من أجل الحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي في لبنان ومنع انجرار البلد الى فتنة داخلية بفعل التجاذبات السياسية الحادة التي يشهدها على خلفية المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري وقضايا أخرى لاتزال عالقة ويبرز الاختلاف بشأنها بين الحين والآخر. فزيارة رئيس الوزراء التركي الى لبنان في هذا الوقت الحسّاس تحمل دلالات واسعة وتؤكد أن تركيا عازمة على استكمال المهمة التي وضعتها لنفسها وعلى القيام بمسؤولياتها كاملة تجاه محيطها العربي والاسلامي وهي أن تكون دائما مفتاحا للخير، مغلاقا للشرّ، دافعة للفتن والمحن وباحثة عن الحلول السلمية التوافقية التي تهدئ الجبهات الداخلية وتقطع الطريق أمام التدخلات الغربية لتعميق الأزمات أو لتحويل مسارها على النحو الذي ترتضيه (هذه الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة) وتقتضيه مصالحها. أردوغان أكد أن تركيا تقف على مسافة واحدة من جميع اللبنانين وأنها تقف بجيشها وشعبها وحكومتها حاجزا أمام الانفلات الأمني الذي بات يخيم شبحه بقوة على لبنان خصوصا مع اقتراب موعد صدور القرار الظني بشأن اغتيال الحريري واحتمال توجيه أصابع الاتهام الى «حزب اللّه». وزيارة أردوغان الى لبنان خلال اليومين الماضيين أخذت زخما كبيرا وذكرت الى حدّ ما بتلك الزيارة التي أدّاها قبل شهر ونصف الشهر الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد الى هناك. فرئيس الوزراء التركي جاب البلاد من شمالها الى جنوبها والتقى كبار المسؤولين على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم السياسية ورافق الحريري الى الشمال والتقى قادة «حزب اللّه» في الجنوب حيث افتتح أيضا مشاريع تنموية وتفقد قوات بلاده المشاركة في «اليونيفيل» ووقع اتفاقات شراكة هامة مع لبنان فاتخذت زيارته بذلك أبعادا سياسية واقتصادية وإنسانية. واللافت أيضا أن زيارة أردوغان جاءت بعد يومين من اتفاق بلاده مع مصر على إنشاء مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي بينهما وما يعنيه ذلك من مشاركة في صنع القرار واتخاذ المواقف الملائمة لكل قضية من قضايا المنطقة. وجاءت أيضا قبل أشهر من قمّة رباعية على مستوى الرؤساء ستحتضنها اسطنبول في ماي المقبل وتضمّ تركيا ولبنان وسوريا والأردن، التي شكلت بدورها مجلسا أعلى للتعاون الاستراتيجي ومن المنتظر أن توقع على 30 اتفاقية للتعاون فيما بينها. وهذا ما سيزيد حتما في إشعاع تركيا كقطب جاذب لمختلف القوى السياسية في المنطقة. وبالاضافة الى كل ذلك، فإن زيارة أردوغان جاءت استكمالا للجهد السوري السعودي القائم حاليا لاحتواء الموقف في لبنان وانقاذ البلد من تداعيات القرار الظني ومن المؤامرات التي يدبّرها له أعداؤه وهي أيضا ترجمة للتقارب الكبير بين سوريا وتركيا وايران، وهي قوى لا يختلف عاقلان حول أهميتها في صنع التوافق الداخلي اللبناني وتأثيرها الكبير على التوازنات الداخلية وحتى الاقليمية. وفضلا عن ذلك فإن الجهد الذي تقوم به تركيا اليوم في لبنان هو امتداد لحلقة بدأتها أنقرة من إيران التي طوّرت علاقتها بها وعرضت مرارا المساعدة على حلّ أزمة ملفها النووي واقترحت احتضان المحادثات المرتقبة بين طهران والقوى الغربية حول البرنامج النووي، والأهم من ذلك أنها وقفت خلال قمّة حلف شمال الأطلسي الأخيرة وقبلها مدافعا قويا عن طهران ومصالحها إزاء ما تخطّط له الولاياتالمتحدة من نشر لدروعها الصاروخية في أوروبا الموجّهة أساسا ضد طهران كما تقول واشنطن بالاضافة الى تحذير تركيا المتكرّر من عدم جدوى العقوبات المفروضة على ايران ومن مخاطر اللجوء الى الخيار العسكري لمعالجة ملفها النووي. وباختصار، فإن هذه المواقف التركية المتعاقبة من ايران إلى لبنان تؤكد أن أنقرة اختارت سياسة الانفتاح على محيطها العربي والاسلامي وهي تعمل على التأثير الايجابي في قضايا المنطقة تفاديا للتدخلات الخارجية وتأثيرات ذلك على أمن المنطقة برمتها وخدمة لمصالحها العليا التي تقتضي أن تكون تركيا داعما لدولة كبيرة وذات ثقل في المنطقة وذات كلمة مسموعة مهما سعى الغرب الى تشويه سمعتها واتهامها بإدارة ظهرها له والتشكيك في أهليتها للانضمام الى الاتحاد الأوروبي.