حين أشعلت التلفاز مساء عيد الاضحى كنت متأكدا من أنني سوف أصادف ذات الشريط السينمائي الذي تتسارع جل القنوات العربية الاسلامية في بثه بحلول الأعياد والمناسبات الدينية، حتى لكأنه أصبح شعيرة جديدة أضيفت إلى شعائرنا أو تقليدا مستحدثا لا يمكن الاستغناء عنه. أشعلت التلفاز على القناة الوطنية وصدق ظني: إنها مشاهد جنود المسلمين ترابط حول مكة وتستعد لفتحها. إنه شريط «الرسالة» للمخرج السوري مصطفى العقاد رحمه اللّه لقد شاهدت هذا الشريط مرات. كانت المرة الأولى من محظ اختياري وكانت المرات الأخرى بإرادة التلفزيون. تحولت إلى قناة «حنبعل» الخاصة فإذا هي مشاهد جنود الكفّار يتأهبون لملاقاة المسلمين عند جبل «أحد». إنه شريط «الرسالة» وإنه الشريط الذي سوف تبثه قنواتنا التلفزيونية العربية الاسلامية في مواسمنا الدينية العائدة مرات ومرات أخرى. هنا تعود بي الذاكرة إلى بداية السبعينات زمن ميلاد مشروع هذا الفيلم وما أثاره من ردود فعل متباينة وأحيانا متضاربة. أيّده البعض وناهض الكثيرون ممن كانوا يرون صادقين أو منافقين أن في «تمثيل» الرموز الأولى للإسلام من الصحابة أو من أهل بيت الرسول الأكرم خرقا للقدسيات أو تدنيسا لها. ثم لما ظهر الفيلم لم تنته المنازعة لكن تغيّر طبعها من «ديني» إلى «فنّي» وكنت شخصيا وأنا أحس اليوم بذنب في زمرة من انتقد الشريط وعيّره وعاب على مخرجه تأثره البالغ بالسينما الأمريكية وجنوحه السافر إلى تقليد قوالبها الشعبية. أذكر في ما أذكر هذا العنوان اللاذع لمقالة نقدية لأحد الزملاء ينعت فيها شريط الرسالة ب«الوستارن الاسلامي» والوستارن كما يعلم الجميع هو قالب من قوالب السينما الأمريكية يصور بأسلوب نمطي التصرف العنيف لرعاة البقر في القرن التاسع عشر في أمريكا الشمالية. ٭ ٭ ٭ ثلاثون سنة أو يزيد ونجاح شريط «الرسالة» في تزايد، لم تستنفده إعادات البث التلفزيوني ولم تستهلكه. إنه عمل طلائعي سابق لعصره مستشرف لانتظارات جماهير العرب والمسلمين، لا فقط لأنه انصهر ضمن تحول فكري كوني جعل من المسألة الدينية المسألة المركزية في القرن الواحد والعشرين٭ بل لأنه أظهر الاسلام في صورته الحقيقية كدين انساني يضع رفعة الانسان وكرامته في قلب اهتماماته، وهو دين التوحيد الذي يضع المخلوق في علاقة مباشرة مع الخالق فيشتد وعيه بمسؤوليته ويقوى تعلقه بحريته، وهو دين وحدة يدعو إلى العدل والمساواة بين البشر وهو دين تسامح واعتدال. لكن القيمة الأولى لشريط «الرسالة» يجب البحث عنها في الجرأة الهادئة التي يتوخاها المخرج لمحاولة تحطيم تمثال الخوف الذي مازال يسيطر على إرادة المثقفين والمبدعين العرب ويمنعهم من تمثل ذوات المسلمين الأول وتصويرها فتجسيد حمزة عمّ الرسول الأعظم أو خالد ابن الوليد أو أبي سفيان زمن كفره أكسب هذا الفيلم عمقا وأعطاه واقعا دون أن يسقطه في الواقعية المؤدية إلى التشبيه، وتلك دون شك تحسب لمصطفى العقاد وتبرز حرفيته وذكاءه الكبيرين واللذين مكّناه أخيرا ولعل ذلك من فوائد تأثره بالسينما الأمريكية من أن ينهي شريطه على نفحة متفائلة منعشة. ٭ ٭ ٭ ثلاثون سنة أو يزيد مرّت على ظهور شريط «الرسالة» لم تنتج السينما العربية خلالها شريطا واحدا يضاهيه أو يعادله قيمة. لا شكّ أن أسباب هذا العقم عديدة ولا شك كذلك أن أهمها هو ظهور الحركات الاسلامية التي فرضت تشددا أفقر رؤانا لتاريخنا الاسلامي بعد أن فرض عليه مسحة تقديسية كسّرت أجنحة الخيال وارتهنت الفكر الناقد المبدع. إنه من الغريب حقا ان تستقيل النخب من مهامها في محاولة تمثل تاريخنا وتجسيد شخصياته ورموزه بما يتقدم بوعي الجماهير ويطوّر مفهومها لتاريخ دينها ويعمق إدراكها لرسالته الحقيقية. غريب والأغرب منه أن تدّعي هذه النخب رغم هذا العقم الواضح انصهارها في الحداثة. أليس عنوان الحداثة اليوم الصورة؟ أو ليست الصورة عنوان استقلالية الشعوب ورمز قوتها؟ لقد حرص المرحوم مصطفى العقاد على أن يجعل شريطه تجسيما لوحدة الثقافة العربية الاسلامية فجمع فيه أبرز وجوه المسرح والسينما في ذلك الوقت وزاد فشرّك أشهر النجوم العالمية صيتا حتى يضمن رواج عمله في العواصمالغربية ووصول رسالته إلى متلقيها ممن لم يكونوا يعلمون أو يرفضون العلم ان الاسلام دين السلم والاعتدال والمساواة بين المرأة والرجل. ٭ ٭ ٭ لقد حكم تشتت العرب المسملين وخمول نخبهم وضعف تنظيماتهم وغياب منظماتهم الثقافية على شريط مصطفى العقاد باليتم فضاعت بذلك فرصة يزيد اليوم عمرها على الثلاثين سنة للتقدم بالسينما التاريخية الاسلامية. ووقع التفريط في انتاج كان يكون خير مرتكز لثقافة إسلامية تقدمية وخير سند لتأنيس أطفالنا وشبابنا بتاريخهم تأنيسا متوازنا. إن السينما اليوم أداة تعليمية أثبتت نجاعتها البيداغوجية العالية فلا غرابة أن يقع فرضها على مدرستنا وقد أصبح حضورها مألوفا في المدارس الغربية. مرحبا بالسينما في مدرستنا لكن أين الأفلام؟ ٭ ٭ ٭ رحم اللّه مصطفى العقاد. لقد ترك لنا شريطا ما لو تمسكنا به لن نبدع بعده شيئا أبدا. ٭ ينسب للكاتب الفرنسي اندري مالرو André Malraux مقولة «إن القرن الواحد والعشرين سيكون دينيا أو لن يكون»