في لقائنا الثاني مع المؤرخ الأستاذ عدنان المنصر، نتعرف أساساً على كتابه الأخير والمرجع القيم عن مرحلة مهمة من تاريخ الحركة النقابية في تونس وعلاقتها بالحزب الحاكم 1924 1978. تعرض الأستاذ المنصر في هذا الكتاب الى التأسيس النقابي وقضية الاستقلالية عن العمل الحزبي وموقع الحزب الدستوري من تجارب التأسيس النقابي، مبينا كيف لعب الاتحاد دوراً مركزياً في النضال الاجتماعي والسياسي جانب الحزب الدستوري الجديد، مما جعله في موقع متقدم عندما جاء الاستقلال، بل كان الطرف الوحيد القادر الى استباق تحديات المرحلة الجديدة بفعل استغراق الحزب في صراعات أنهكته وجعلت منه مفتقداً لأية تصورات حول السبل الواجب اتباعها لاخراج البلاد من التخلف الاقتصادي والخراب الاجتماعي. وجاء البرنامج الاجتماعي للاتحاد في مؤتمر 56 دليلاً على الدور الذي كانت المنظمة النقابية تطالب بأدائه من موقع الشريك الكامل، ومن موقع الطرف المؤتمن على مصالح الفئات الضعيفة، وهو ما شكل ازعاجاً لبعض قيادات الحزب والدولة، فسارعت إلى إعادة المنظمة الى موقع التابع والرديف، بين تشجيع الانشقاق والانقلاب على القيادة الشرعية، قبل أن تلجأ في 78 الى استعمال القوة القصوى، مما انتهى الى أحداث 26 جانفي الأليمة. ٭ مفهوم العلمانية هو فصل الدين عن السياسة لكن حالياً من يدعي العلمانية يشن حرباً شعواء على كل من له ولو ذرة من التدين؟ هذا يعطي رد فعل ثقافي عكسي بالتمسك بالفهم المتاح للهوية، في حدها الأدنى، مع الخلط الذي يصبح آليا بين اعتبار الايمان مقياسا أساسيا للانتماء للمجموعة الوطنية. العلمانية أصلاً أكثر انفتاحا من اللائكية. يكفي أن ننظر الى المثال البريطاني في التعايش بين مختلف الطوائف والديانات والثقافات، دون أن تشعر الدولة هناك أن عليها أن تجبر أحدا على تبني شكل معين للباس، وبريطانيا ليست بلدا أقل مدنية ولا عقلانية من فرنسا. أما في هذه الأخيرة، فلا تزال الجاكوبينية تحكم الثقافة السياسية، هناك بلدوزر ثقافي يريد أن يسوي الأرض بمن عليها وبما عليها، دون اكتراث لأية مميزات. المشكل أن فهم البعض في بلادنا للفصل بين الدين والدولة ينصهر في التعريف والممارسة الفرنسيين مع ما يعنيه الأمر من عداء مرضي للدين أحيانا، وميل للاستفزاز واتجاه واضح، أحيانا، لاحتقار الناس واتهامهم بالجهل والتخلف. فالأمر اذن يتجاوز أحيانا المسألة السياسية ليتناول الثقافة الدينية، أو الثقافة التي يشكل الدين أحد مقوماتها. من دواعي فشل تلك النخبة في الانتشار منذ أزيد من قرن، (ذلك أنها تدعي أنها تواصل للتجربة الاصلاحية التي بدأت في القرن التاسع عشر وهي تجربة، لو يعلمون، تمت من داخل النسق الثقافي السائد وليس من خارجه). ينبغي على هؤلاء أن يتساءلوا عما يريدون: اصلاح المجتمع ؟ أو الحكم على أنفسهم بمواصلة الانعزال والتهميش؟ لكل اختيار المنهج الذي يتلاءم معه. هناك نظرة مستوردة من واقع أوروبي كانت الكنيسة فيه تلعب دور السلطة المساندة للاستبداد . في الاسلام ليس هناك كنيسة، وبالتالي فان العداء لكل التعبيرات الدينية هو عداء في غير محله، يمكن أن نكون معادين لتعبير سياسي سواء كان دينياً أو في مجال آخر , لكن لا يجب أن يتحول ذلك الى عداء لثقافة يمثل الدين أحد مقوماتها، في هذه الحالة يعزل اللائكيون أنفسهم ويضعون حاجزاً بينهم وبين المجتمع الذي يفترض أن يعتمد تأثيرهم عليه أساليب بعيدة عن الاستفزاز، فالاستفزاز يصنع حاجزا نفسيا يمنع التأثير. هذه أول مقومات البيداغوجيا السليمة. . ٭ وكأني بك تدافع عن مزالي في مقالك الذي كتبته عن كتابه؟ نعتبر دائماً أن كاتب أي مقال اما يدافع أو يهاجم، والقارئ يهمل موضوع المقال ويبحث عن تصنيف كاتب المقال، لأنه يشرع في قراءة المقال وموقفه محدد سلفاً، وهذا التمشي خاطئ . تناول تقديمي جانباً لمذكرات مزالي في تقييم الفترة التي تناولتها المذكرات، ونحن غالباً ما نهمل المسار التاريخي العام لتلك الفترة، ونركز انتباهنا على الأفراد الذين كان لهم دور، وهم ليسوا الا براغ صغيرة في آلة كبيرة ومعقدة. عنونت مقالي «عندما تصاب الدولة بمرض بركنسون» للتأكيد على أن المشكل ربما يتجاوز دور محمد مزالي وغيره ممن كان لهم مسار سياسي معين بايجابياته وسلبياته، والشخص في ذاته لا يهمني كمؤرخ، وانما أحاول الفهم العام لفترة أو لقضية. ٭ نشرت مقالاً آخر بعد وفاة مزالي على ال«فايس بوك» باللغة الفرنسية؟ نشرت مقالاً بعنوان «الى الذين لا يجدون شجاعتهم الا أمام جثة» وهو مقال أثار الكثير من ردود الفعل عبر الشبكة العنكبوتية، حاولت فيه بوصفي منتمياً الى جيل مدين للدولة الوطنية في تكوينه أن أوضح الحدود التي يتوقف عندها النقد ليبدأ التعرض إلى كرامات الأشخاص، خاصة عندما يخرجون من السلطة أو عندما تتوفاهم الموت، تحيّزي ليس للأشخاص مهما كانوا أو فعلوا، وانما محاولة فهم لتاريخ بلادي وثقافتها، بسلبياتها وايجابياتها. ٭ في البدء مبروك لكتابك الذي صدر أخيراً «الدر ومعدنه، الخلافات بين الحزب الدستوري والحركة النقابية في تونس 1924-1978» ما الذي يمنح مسألة الخلافات بين الحركة النقابية والحزب الدستوري مشروعية الطرح اليوم ؟ طرح موضوع العلاقة بين حركة سياسية وحركة نقابية في حالة التصادم والخلاف،يستمد مشروعيته من أهمية حضور هذه المسألة في الواقع الوطني قبل الاستقلال وبعده، فنشأة الحركة النقابية الوطنية التي تعود الى تجربة محمد علي الحامي ورفاقه في 1924، واسقاط هذه التجربة أشهراً قليلة بعد ظهورها، ثم توالي التجارب بعد ذلك وما تبعها من ملابسات، ليس بالمكون الهين في الوضع الاجتماعي والسياسي، وما دفعني إلى إعادة تناول الموضوع اليوم هو راهنية المسائل التي طرحها هذا البحث منذ صيغته الأولى، وعدم صدور مؤلف مختص لتتبعها ومحاولة استقراء العلاقة المعقدة بين الحركة النقابية والحزب الدستوري طيلة تاريخها المشترك، لكن عندما أعدت قراءة العمل في صيغته الأولى راعني حجم التسرع وسيطرة التناول السياسي على المنهج العلمي، حاولت مراجعة البحث وتنسيب الأحكام، فجاء في صيغته اليوم أكثر وفاء للمنهج العلمي، ان كان الجمهور الجامعي أول متلق لمثل هذه المؤلفات، فالجمهور الواسع من نقابيين ومتحزبين وغيرهم يريد أن يفهم: ماذا حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ ٭ كيف كان تناولك للبحث؟ عبر ثلاث دوائر اعتقدت أنها الأساسية، اتفقت على تكوين عناصر مشتركة بين الخلافات-النوى : ٭ دور القيادات الحزبية الدستورية في مسيرة التأسيس النقابي الوطني وطبيعة تناول الطرف النقابي والطرف الحزبي لمفهوم الاستقلالية النقابية في فضاء استعماري ثم وطني . ٭ طبيعة تطور العلاقة بين الطرفين من التأسيس الى الصدام بعد محاولة الحزب الدستوري احتواء المنظمة النقابية وتوجيهها بما يتلاءم مع استراتيجية العامة . ٭ الخيارات في الميدان الاقتصادي والاجتماعي وموقعها من الصراعات بين الطرفين، دون أن ننكر الحدث كمكون أساسي في البحث التاريخي . ٭ هل ما زالت هذه الاشكاليات السياسية التاريخية تسجل حضورها في واقعنا الاجتماعي السياسي اليومي؟ من أهم الاشكاليات على الاطلاق، تلك التي تتعرض الى ماهية العمل النقابي: هل يمكن السكون الى التعريف المتداول للنقابة كمنظمة تدافع عن حقوق العمال المادية والمعنوية؟ واذا ماقبلنا به فالى أي حدود؟ أين تقع حدود «الحقوق المعنوية»؟ اننا نلتقي هنا بأشكال من النشاط النقابي لا تتبع ذلك التعريف حتى في خطوطه العامة، فالنقابي يصبح موازياً للسياسي، والاهتمامات تصبح مزدوجة، وخطاب الاستقلالية يغفو ويصحو بحسب الظروف. ٭ أين دور القاعدة العمالية التي يفترض أن يسير كل شيء حسب ارادتها ورغبتها؟ الجماهير تظل غائبة باستمرار عن مسرح الفعل ولم تهب قيادتها موقف مساندة جدية في قمة صراعها مع الحزب الدستوري، خاصة بعد الاستقلال. ٭ هل يمكن القول إن ضعف عددالمثقفين نسبياً قد حرم العمال من الوعي الذي كان بامكانه أن يصنع مواقف رافضة للاحتواء؟ بماذا يمكن تفسير مقاومة العمال لهجوم الحزب الدولة في 26 جانفي 1978، خاصة أن ذلك تزامن مع تصاعد دور المثقفين في هياكل الاتحاد قبل تلك الأحداث الدموية؟ لقد اعترف الحبيب عاشور بهذا الدور في مكالمة هاتفية له مع أحد المعارضين في الخارج قبل اندلاع الأحداث: «مابقيناش غفاصة، توة عندنا رجال». ٭ هل هذا التناقض مع الصراعات السابقة هو ما منح أزمة 78 قيمتها كتحول مهم في الحركة النقابية؟ أساساً. تحول العمال لمساندة قيادتهم النقابية بعنف وضراوة لم يستطع انهاءها الا التدخل العنيف للجيش، ووقف أمام المحاكم القياديون، والقاعديون، وسجل المثقفون، ونخبة الطبقة العاملة حضورهم القوي سواء في تأطير التحركات أو في انتاج خطاب الاستقلالية النقابية ذي المضمون الاجتماعي والسياسي الواضح، أصبح الاتحاد العام التونسي للشغل قطباً اجتماعيا مشعاً يؤطر عدداً من الجماهير العاملة والمهمشة، وذلك في مقابل أفول الحزب كقطب يجمع حوله كل التونسيين، كنتيجة لاختياراته الاقتصادية والاجتماعية، وغياب التعامل الديمقراطي للدولة التي يقودها مع الشعب، مما رشح الاتحاد لرعاية التوجه نحو التحول الديمقراطي الممكن، لقد أجهد الحزب الدولة هذا المسار بواسطة الجيش والقوة المبالغ فيها، فوضع حداً لجميع امكانات تحول النظام الى الانفتاح السياسي. كما أن قدرة الاتحاد على صياغة بدائل اقتصادية واجتماعية في مواجهة خيارات الدولة الاقتصادية والاجتماعية منحته اشعاعاً خاصاً ودعم منافسته للحزب على مستوى البرامج الذي ظهر أساساً في 56، وكذلك في 78 باعتبار أن مرحلة ما قبل 56 كانت تعفي الجميع من اقتراح تصورات متكاملة في ميدان السياسة الاقتصادية والاجتماعية. ٭ هل كان الاتحاد نقيضاً جذرياً للحزب وهل كانت برامجه دليلاً على جديته؟ ما يمكن الجزم به هو أن تجربة 56 والتي تلتها 78 كان يمكن أن تتطور إلى نقيض نوعي، رغم اعتراض الحزب الدولة باستمرار حيث لم يكن مستعداً للسماح بتطور قوة اجتماعية وسياسية خارج هياكله، فطيلة العلاقة بين الحزب والنقابة كان المنطق الكيلاني والاقصائي حاضراً باستمرار من جانب الحزب الدستوري. ٭ عززت البحث بشهادتين للأستاذ حمد بن صالح والأستاذ محمد الصياح؟ الشخصيتان محوريتان في تاريخ العلاقة بين الاتحاد العام للشغل والحزب الدستوري، شهادة الأستاذ أحمد بن صالح الأمين العام الأسبق للاتحاد العام التونسي للشغل حول تجربته في قيادة الاتحاد والمجلس القومي التأسيسي وشهادة الأستاذ محمد الصياح حول طبيعة العلاقة بين الحزب والاتحاد. وأردت من خلال الشهادتين توفير وثيقتين تضيئان وتكملان مضمون هذا البحث. ٭ في خضم كل جدية بحوثك، هل للمؤرخ هوايات أخرى ؟ أنا تكويني أدبي، أطالع الأدب والشعر، وقراءات فكرية وفلسفية. أحب الموسيقى الشرقية، أستمع إلى فيروز، أم كلثوم، عبد الوهاب، وديع الصافي، كارم محمود.... أحب الموسيقى الغربية للسبعينات والثمانينات.... ٭ ما هو حلمك الحالي؟ الحلم حالياً في مجال عملي: أن يحتل التاريخ المكانة التي يستحقها بوصفه المكون الأساسي لهويتنا الممتدة في الزمن. الحلم الشخصي: أن أنهي المشاريع البحثية التي أخطط لها دون أن يؤثر ذلك كثيراً على حضوري داخل عائلتي.