منذ أيام تكلمت لغة الحناجر الغاضبة في ولاية سيدي بوزيد.. تكلمت لتوصل رسالة تعاطف مع الشاب محمد البوعزيزي ورسالة غضب من الوضعية التي أوصلت شابا في مقتبل العمر الى محاولة الانتحار باضرام النار في جسده.. وهي وضعية تشمل أعدادا من أبناء ولاية سيدي بوزيد ومن باقي ولايات الجمهورية وتخص تشغيل حملة الشهائد العليا والتي باتت تشكل ملفا وطنيا ينكب الجميع على ايجاد الحلول الملائمة له وخاصة رئيس الدولة الذي جعل منه أولوية الأولويات للفترة الرئاسية الحالية بعد أن شكل عنصرا بارزا في الحملة الانتخابية. لكن الاشكال أن صرخة التعاطف والغضب هذه قد خرجت أو أُخرجت عن اطارها.. لتتكلم معها لغة اليد ظاهرة وخفية وتطال ممتلكات خاصة وعامة ولتصنع ما يشبه كرة الثلج التي يريد لها البعض أن تتدحرج وتكبر.. لا يهم إن أخذت في طريقها سلطان القانون وضرورة احترامه.. ولا يهم إن تنكرت لنبل المشروع ولحجم المنجز على صعيد التنمية الشاملة وهو كثير وكثير جدا.. وبعد كل هذه الأيام الطويلة، لقد بات في حكم الضروري أن تهدأ الأنفس والخواطر وأن تتكلم لغة العقل والحكمة وأن ينكب الجميع على معالجة أسباب ما جرى وايجاد حلول جذرية تستأصل كل بذرة غضب أو تشنج وتوفر لكل تونسي ولكل تونسية سبل العيش الكريم وفي طليعتها حقّه في الحصول على مورد رزق. لنقل منذ البداية إن مأساة الشاب محمد البوعزيزي قد تركت مرارة في حلق كل مواطن تونسي.. وقد استفزت بالأسئلة الحائرة التي طرحها عقل ووجدان كل تونسي مهما كان موقعه.. ولنقل أيضا إن كل تونس من أقصاها إلى أقصاها متضامنة معه في محنته وتدعو له بالشفاء العاجل ليواصل مسيرة كفاحه بنفس الروح وبنفس التفاني.. لنقرّ أيضا بوجود مشكل في جسور التواصل والاصغاء آن الأوان لمعالجته.. وكذلك بوجود اشكال ما فتئ يكبر مع السنوات ومع تخرج أعداد اضافية من حملة الشهائد العليا ويتمثل في عدم قدرة اقتصاد البلاد على النمو بنفس الدرجة ليتمكن من استيعاب كل الخريجين القدامى والجدد.. وذلك رغم العناية المتواصلة ورغم الخطط والبرامج والآليات المستحدثة.. ولنقل أيضا إن ولاية سيدي بوزيد قد تكون بها خصوصيات تجعلها الأقل حظا مقارنة بجهات أخرى ولا تتوفر على ما يكفي من المشاريع والبنى التحتية التي تفتح الآفاق أمام الشباب.. وهذا الواقع وهذه الخصوصيات هي محل متابعة من أعلى هرم السلطة لايجاد الحلول الملائمة والعاجلة لها. ولنقل أيضا وبنفس الوضوح إن وجاهة المطالب ونبل المشاغل وغيرها لا يمكن أن تصبح مسوّغا للفوضى ولانتهاك القوانين والأعراف.. ولا يمكن أن تصبح مسوّغا لتخريب المكاسب العامة والخاصة وهي أنجزت بمقدرات وبعرق الشعب التونسي ومن ضمنه وفي صلبه مقدرات وعرق أبناء ولاية سيدي بوزيد... أفلا يرى أبناء مدينة سيدي بوزيد ومعتمديات المكناسي ومنزل بوزيان والرقاب أن مكاسب وممتلكات غالية تعود لهم ولاخوانهم قبل غيرهم من التونسيين قد استبيحت تحت عنوان ايصال صوت أو التنفيس عن غضب؟ ولنقل أخيرا إن صعوبات الظرف وتأجج المشاعر لا ينبغي أن تجعلنا ننسى حجم المنجز وصواب الخيارات والسياسات التي صيرته ممكنا.. وهو منجز لا يخفى على كل تونسي شريف وتونسية شريفة وهم الأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا أنه صار واقعا نعيشه وتنعم به جهات وفئات كثيرة في بلادنا بفضل المشروع المجتمعي للرئيس بن علي.. وبفضل انحيازه الواضح والصريح للجهات والفئات الأكثر حرمانا في البلاد.. انحياز جسّده من خلال التوجهات الكبرى للسياسة التنموية بالبلاد ومن خلال الاعتمادات والخطط التكميلية التي تنبثق عن مجالس وزارية خاصة أو عن مجالس جهوية للتنمية.. وكذلك من خلال آليات المساعدة على احداث المشاريع واستحثاث نسق خلق مواطن الشغل ومن خلال صندوق التضامن الوطني وما أشاعه من أنوار للتنمية في ربوع قصية عانت لعقود من الحرمان ومن غياب المدرسة والمستوصف والطريق المعبّد، فإذا بها تنعم به وتعيشه واقعا ملموسا.. لم يقل أحد إننا بلغنا الكمال.. ولم يقل أحد إن مسيرة التنمية قد اكتملت.. ولكن لنتأمل فقط في أحد الشعارات التي اتخذها الرئيس بن علي عنوانا لحملة انتخابية وعنوانا لفترة رئاسية وسندرك حجم الوعي بثقل الملف وبصدق العزم على معالجته.. هذا العنوان المتمثل في «التشغيل أولويتي».. فكيف يكون التشغيل أولوية لرئيس الدولة لو لم يكن مقتنعا بوجود المشكل ومقتنعا أكثر بضرورة حلّه وبالسرعة المطلوبة؟.. وكيف يصبح ملف تشغيل حملة الشهائد العليا ملفا قارا في جدول اهتمامات رئيس الدولة لو كان ملفا ثانويا ولو لم يكن يحظى بأولوية الأولويات في اهتماماته؟ وقبل هذا وبعده، فإن المصاعب الظرفية، وهي لا تخص بلادنا وحدها بل تضرب بلدانا تفوقنا موارد وثروات وامكانات، لا يجب أن تنسينا حجم ما تحقق.. ولا يجب أن تجعلنا ننساق وراء العواطف مهما كانت جياشة لنطالب بكل شيء والآن.. فهذا ضرب من التعجيز أو من طلب المستحيل.. ولا أن نضع خياراتنا موضع تساؤل وشك، فقد جرّبت وصحت وأعطت نتائج يقرّ بها الجميع. وختاما، فقد رأى أبناء ولاية سيدي بوزيد وأبناء ولايات القصرين والكاف وجندوبة وقبلهم ولاية قفصة وغيرها كيف تدخل رئيس الدولة بحزم وعزم ليسرّع وتائر التنمية في ربوعهم وليجسّد الاصغاء الى مشاغل الناس كأروع ما يكون (وهو ما قد يكون غاب عن مسؤولين بالجهة، وهو ما زاد الطين بلة وأذكى نار حريق كان بالامكان اخماده من البداية..) والمطلوب هو التحلي بأعلى درجات الوعي للحفاظ على مكاسبنا وللحفاظ على وتائر مسيرتنا التنموية وما تستند إليه من استقرار وسلم اجتماعية مكّنا بلادنا من أن تصبح قبلة للاستثمار الخارجي ومن العبور الى برّ الأمان رغم الهزات والأزمات العالمية وما تركته وتتركه من آثار مدمرة في بلدان تفوقنا من حيث حجم اقتصادياتها ومن حيث مواردها وثرواتها. وكل هذه تحديات تدعونا الى توحيد الجهود ورصّ الصفوف لرفعها.. وكل هذه مكاسب تتطلب منا التسلح بأعلى درجات الوعي لصونها والحفاظ عليها.. وتدعيمها.