صباحا، استقبلنا في مدينة سيدي بوزيد «الشراولية»، أي باعة الخضر المتجولين زملاء الشهيد محمد البوعزيزي في مسيرة سلمية منظمة، اعتزازا بما حققه «الخضار الذي أسقط الجنرال»، كما يقولون بفخر، فيما كانت مجموعة من الشباب تجوب الطريق الرئيسية على الأقدام حاملة الأعلام لتنظيم رحلة اعتصام في العاصمة. لا تتوقف المسيرات والتجمعات يوميا في سيدي بوزيد: غيروا اسم الشارع الرئيسي الذي يقطع المدينة إلى «ساحة الشهيد البوعزيزي»، ملأوا الجدران بالشعارات الثورية بثلاث لغات، اكتسحوا نصب «السابع من نوفمبر» وألصقوا عليه صور الشهداء، نصبوا خيمة قبالة الولاية باسم لجنة المقاومة الشعبية لتنظيم المسيرات وحاجيات الفئات التي تحتج كل يوم في قلب المدينة في هدوء مذهل. صباح ذلك اليوم، تجمع المئات من أصحاب الشهائد في بوابة الولاية التي تكاد تتحطم أمام الضغط، تسلق أحدهم البوابة ليعلق لافتة تعبر عن مطالبهم. قال لنا أحد هؤلاء الشباب: «بعد عقود من الفساد، ليس لنا ثقة في أحد، لذلك نستمر في الضغط عليهم». بعد ذلك قال لنا الأستاذ محمد الجلالي المحامي: «نحن فخورون بانطلاق ثورة الشعب التونسي من عندنا، لذلك نحافظ على جذوتها حية». الأستاذ الجلالي كان قاضيا لكنه غادر القضاء بسبب اعتراضه على تفاصيل قضية فساد وسوء تصرف في مطار قفصة، لكنه شاعر أيضا، له قصائد جميلة للتشهير بالظلم والاضطهاد والفساد واستئثار فئة قليلة من المسؤولين وقادة التجمع الدستوري بخيرات الجهة. غير أن قصائده ظلت مصدرا لاضطهاده طويلا حتى أصبح حريفا قارا عند إدارة الضرائب، أما اليوم فقد أصبح يلقي أشعاره حيثما أراد. لجان تبدو مدينة سيدي بوزيد هادئة ونظيفة إلا من بقايا رماد الأشياء التي تم إحراقها في الشوارع. أعوان الشرطة والحرس عادوا إلى أغلب مفترقات المدينة مدعمين دائما بالجيش، لكن الجو العام يوحي بالأمان حتى في الليل، حيث يستمر الناس في الحركة والمرابطة بالشارع الرئيسي رغم حضر الجولان. قال لي الأستاذ علي العيفي المحامي إن المدينة لم تشهد عمليات نهب باستثناء حرق سيارة خاصة يقال إنها على ملك التجمع، أو نهب مستودع التضامن الاجتماعي الذي كان مليئا بالأغذية والمعدات المخصصة لمساعدة الفقراء والتي لم توزع عليهم. «كانت كمية مهولة من المساعدات المخفية هناك ولا أحد يعرف لماذا لم يتم توزيعها، وقد بدا شرعيا لسكان المدينة أن يأخذوها». ما عدا ذلك، يلاحظ الأستاذ علي العيفي أن مظاهر الانحراف قد اختفت تقريبا، لأن ما حدث قد جعل الناس يتوحدون فيما بينهم ويترفعون عن السرقة وعن أشكال الإجرام. لا حديث للناس بكل فئاتهم إلا عن وضع حد للظلم والاحتقار الذي كان يلقاه الناس، لوضع حد لنهب المال والاحتماء بالتجمع الدستوري الديمقراطي كما قال لنا الأستاذ الجلالي في مقر اتحاد الشغل الذي تحول منذ بداية الانتفاضة في سيدي بوزيد إلى خلية قيادة وتنظيم بالتنسيق مع الحقوقيين والناشطين السياسيين في المدينة. يقول السيد المولدي القراوي عضو الاتحاد الجهوي للشغل: «يوم 17 ديسمبر تكونت لجنتان، الأولى في الاتحاد تحت اسم لجنة المتابعة ودعم أهالي سيدي بوزيد والثانية هي لجنة المواطنة وتضم حقوقيين وناشطين من المعارضة»، بعد ذلك تكونت لجنة المقاومة الشعبية المفتوحة للجميع في وسط سيدي بوزيد التي ظلت تتظاهر يوميا لمدة عشرة أيام قدمت خلالها تضحيات كبيرة. يضيف السيد المولدي القراوي: «لم يكن ذلك سهلا، فبعد أن ألقى الرئيس المخلوع خطابه الأخير، فوجئنا بأطراف من التجمع قد جهزت أشخاصا على متن شاحنات لاقتحام المدينة فتصدينا لهم، كان يمكن أن تضيع انتفاضة أهالي سيدي بوزيد والشعب التونسي». أسماء المرتشين سيدي بوزيد تغيرت تماما لمن لم يزرها بعد انتفاضة أهلها، لا حديث إلا عن استمرار المظاهرات والضغط لتطهير الجهة من الفساد كما قال لنا نقابي شاب. قبل ذلك، روى لنا محام معروف كيف تولى سكان المدينة طرد كبار المسؤولين ممن يتهمونهم بالفساد: «يوم 21 ديسمبر، قدنا مسيرة ضخمة تتكون من الحقوقيين والنقابيين والناشطين السياسيين وتوجهنا إلى الولاية مطالبين برحيل مسؤول كبير فيها (سوف نمتنع عن ذكر الأسماء والمسؤوليات حتى تثبت التهم)، ثم توجهنا إلى المحكمة لإخراج قاض معروف بالفساد والرشوة». يبدو أن هذا المسؤول المذكور بالولاية والقاضي المطلوب قد استجابا للضغط الشعبي الكبير وغادرا تحت حماية الجيش إلى وجهة مجهولة، كما اختفى أشخاص كثيرون كانوا يتحملون مسؤوليات في التجمع. يضيف هذا المحامي أن هروب هؤلاء كان أفضل حل وإلا لكان الناس فتكوا بهم. كما أعد الكثير من الحقوقيين قائمة أولية تضم خمسة أسماء من قضاة معروفين يتهمونهم بالفساد والتحالف مع رموز الارتشاء ونهب المال العام، يقول لنا نقابي معروف إن شباب سيدي بوزيد فعلوا أكثر من ذلك، فقد كتبوا على العديد من جدران المدينة أسماء أشخاص يتهمونهم بالفساد وبنهب الأموال العامة والخاصة، لكن تم محوها لما تمثله من دعوة للانتقام الشخصي، «نحن ضد أي شكل من أشكال الانتقام الشخصي لكننا لن نسكت، سوف نجمع عنهم الأدلة ونلاحقهم أمام القضاء». قاد اتحاد الشغل أغلب عمليات الاحتجاج والتظاهر السلمي، فيما كان حضور جريدة «الشروق» في مقر الاتحاد فرصة لنجتمع مع عدد هام من النقابيين والحقوقيين، حيث قدم لنا السيد المولدي القراوي كتابا نشره الاتحاد عن التردي الخطير في مستوى العيش في سيدي بوزيد والذي لم يهتم له أحد حتى كانت الثورة. نماذج الفساد يقول السيد التهامي كاتب عام الاتحاد الجهوي للشغل بسيدي بوزيد إن من حق أهالي سيدي بوزيد أن يفتخروا بشرف إطلاق هذه الثورة، كما من حقهم أن يطالبوا بأولويتهم في التنمية بعد أن قضوا عقودا من الحرمان. أما السيد المولدي القراوي فيستعرض الكتاب الذي أصدره قسم التشريع في اتحاد الشغل في أوت الفارط، ويقول بتأثر: «نسبة الفقر في الوسط الغربي تزيد عن 12 بالمائة أي أربعة أضعاف المعدل العام، ثم إن سيدي بوزيد هي الأكثر فقرا في كل الوسط الغربي»، يستعرض الأرقام والحقائق المرة عن مستوى الفقر، البطالة وغياب مشاريع الاستثمار، استفراد فئة قليلة من رموز التجمع الدستوري وبعض المسؤولين بخيرات البلاد وهو ما سيكون موضوع مقال آخر. يدركنا في مقر اتحاد الشغل الأستاذ عمر الزعفوري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة صفاقس محملا بجملة من الوثائق قائلا: «لدي هنا أنموذج واضح عن الفساد والنهب الذي طال خيرات المدينة وخصوصا الفلاحة، لدي معلومات موثقة وواضحة عن النهب الذي وقع لتعاضدية قمودة في سيدي بوزيد التي كانت أكبر وأنجح المشاريع الفلاحية في الجهة، وكيف حولوها إلى مصدر للإثراء السريع وتفقير الفلاحين». الحديث مع أستاذ جامعي في حجم السيد الزعفوري عن الفساد المالي والسياسي ممتع، فهو يزن كلامه جيدا، ويتحدث انطلاقا من وقائع مثبتة عن الاستيلاء على أموال الفلاحين وعلى المال العام، حتى أن ما يقدمه من معلومات تبدو أحد أكثر الصور واقعية عن أسباب الإحباط العام الذي دفع بالشهيد محمد البوعزيزي إلى قتل نفسه لإطلاق الثورة ضد الفساد والظلم، وهو ما سيكون موضوع مقال الغد.