٭ سيدي بوزيد، «الشروق» كمال الشارني يبدو ملف «تعاضدية الخدمات الفلاحية بقمودة» في سيدي بوزيد أنموذجا فريدا من الفساد المالي والإداري بعد أن كانت أنموذجا مشجعا لنجاح صغار الفلاحين في العمل الجماعي، ومن غرائب التصرف في هذه التعاضدية إصلاح شاحنة قديمة بمبلغ 64 ألف دينار ثم التفريط فيها ب 11 ألف دينار، أو ضياع ما قيمته 140 ألف دينار من الحليب بحجة التلف. قصص الفساد والاحتكارات في سيدي بوزيد لا تنتهي، لكن هذه القصص تتكرر فيها علامات واضحة: كان يكفي أن تكون في التجمع الدستوري أو في أحد مراكز السلطة لكي تحصل على احتكارات لا حدود لها، من الاتجار في الأعلاف إلى الحصول على امتيازات في الرخص وقروض التمويل التي قررتها الدولة وفوائد مالية وعينية، دون أي رقيب. وفي الأثناء، كان الشباب العاطل من حملة الشهائد أو غيره يرزح تحت البطالة والفقر وضيق الأفق، أما إذا فكر أحد في الاحتجاج فإن التهمة الجاهزة لتشريد المحتج، وهي تهم جاهزة من نوع الانتماء إلى الإسلاميين، أو المعارضة لأن الاختلاف مع ممثلي التجمع كان يعد تهمة،. لكن لنعد إلى ملف تعاضدية قمودة بصفتها درسا في ما لا يجب فعله بالناس. قصة الشاحنة تقول الوثائق إن هذه التعاضدية تأسست عام 1990 بمساهمة 75 شخصا من صغار الفلاحين وبمساهمة بسيطة من الدولة التي قدمت بقايا التعاضديات المنحلة. كان رأس مال التعاضدية بسيطا في حدود 10390 دينارا، لكن طموحات مؤسسيها كانت كبيرة تتمثل في تقديم الخدمات الميكانيكية للفلاحين وتزويدهم بالبذور وتجميع المحاصيل وكل ما يتعلق بالعمل الفلاحي. لم يكن ذلك سهلا في ظل العقلية التقليدية لصغار الفلاحين وخصوصا رفضهم لأي اقتسام للملك الفلاحي. ومنذ أعوامها الأولى، حققت التعاضدية إنتاجا مثيرا للإعجاب: جمع 20 ألف لتر من الحليب يوميا، و600 ألف لتر شهريا بالإضافة إلى مختلف الخدمات الفلاحية. يقول عمر الزعفوري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة صفاقس الذي كان منخرطا في التعاضدية إن ذلك النجاح كان يعني لدى بعض المتنفذين في الجهة أموالا تثير الشهية فتهافتوا عليها للنهب. ارتفع عدد منخرطي التعاضدية من 75 فلاحا إلى 302 لكن دون أن يزيد رأس مالها مليما واحدا رغم أن قيمة السهم 50 دينارا. ومنذ أعوام عديدة لم يعد أحد يقدر على محاسبة مسيريها الذين تورطوا في معاملات هي محلّ تحقيق قضائي لا ينتهي رغم أن الخبراء العدليين قد أكدوا وجود سوء التصرف مثل التفريط في معدات وشاحنات التعاضدية دون ترك وثائق قانونية بالإضافة إلى مسألة إصلاح شاحنة قديمة بمبلغ 64 ألف دينار وهو ما يكفي لشراء شاحنة جديدة، ثم التفريط في هذه الشاحنة في ما بعد بمبلغ 11 ألف دينار. يقول الأستاذ الزعفوري الذي قدم عدة قضايا ضد المسؤولين في التعاضدية إن كل ذلك كان لتغطية عمليات سرقة وسوء تصرف واسعة، لأنهم حولوها إلى بقرة حلوب. ورغم الاختبارات العدلية التي تؤكد شكوكه وشكوك المتضررين الذين لم يروا مليما من المرابيح فإن القضية ظلت تراوح مكانها طويلا، بل استهدفوا الأستاذ الزعفوري بالتهم الجاهزة. ضرائب تجمعية يضيف الأستاذ الزعفوري: «كان ثمة تواطؤ عام في الجهة بين مختلف المسؤولين، كان الجميع يعلم حقيقة سوء التصرف والاختلاس، وكان يكفي أن يحتمي أحدهم بالتجمع لكي يصبح فوق القانون، التجمع نفسه مدين للتعاضدية بملبغ 1748 دينارا، لكن ذلك ليس سوى الشجرة التي تحجب غابة الفساد». يفسر أحد المحامين الحاضرين أن مسؤولي التجمع كانوا يفرضون ضريبة غير رسمية ولا قانونية على منتجي الحليب قدرها 5 بالمائة من المبيعات دون أي وصل أو إثبات ولا أحد يعرف إلى جيب من تذهب تلك الأموال. أما في المناسبات الوطنية ومهرجانات النفاق السياسي فإن الفلاحين هم الذين يدفعون الكلفة والضريبة، لكنهم يدفعونها «تحت الحائط»، دون أي إثبات، فقط الدفع لجماعة التجمع الذين يطوفون عليهم لطلب المساهمات في إنجاح السابع من نوفمبر والتغيير والانتخابات وضيافات المسؤولين المرموقين. في الأثناء، قاد الأستاذ الزعفوري معركة قضائية ضد هؤلاء منذ عام 2005، لكنها بدت أشبه بمعركة ضد الدولة يضع فيها المسؤولون كل ثقلهم في جهاز القضاء والإجراءات لتعطيل القضايا. وقدر اختبار مالي بأمر من القضاء قيمة ما لم يتم دفعه من المرابيح لصغار الفلاحين بمبلغ 525 ألف دينار، فيما صدر حكم قضائي مدني عن محكمة قفصة بإلزام مسؤولي التعاضدية بدفع 182 ألف دينار عن نشاط السنوات الثلاث 98-99-2000، وأثبت تقرير آخر وجود شراءات دون فواتير قدرها 160 ألف دينار، فيما تظل مسألة الحليب في التعاضدية فضيحة بكل معاني الكلمة. فضيحة الحليب يقول الأستاذ الزعفوري إن مسؤولي التعاضدية تعودوا على الزعم بحصول تلف في كميات الحليب التي يتم تجميعها وبأن مصانع التحويل لم تقبل نسبة هامة من الحليب، وفي ظرف نصف عام، تم الزعم بتلف 390 ألف لتر من الحليب لا تقل قيمتها الأصلية عن 140 ألف دينار، لكن القانون يفترض جملة من الإجراءات عند تلف الحليب وهي حضور بيطري للمعاينة وإثبات التلف، وعدل تنفيذ ومسؤولين من التعاضدية، إذ من غير المعقول إتلاف كل تلك الكمية من الحليب دون إجراءات قانونية. أدت تلك التصرفات إلى خسارة فادحة للكثير من مربيي الأبقار الذين وجدوا أنفسهم يعملون بالخسارة، خصوصا في ظل احتكار تجارة الأعلاف وتصاعد أسعارها في السوق السوداء، حتى أصبح إنتاج الحليب عنوان الإفلاس في سيدي بوزيد، باستثناء من يقبل بقواعد اللعبة ويدفع الرشوة لكي يحصل على بعض الفتات. يضيف الأستاذ الزعفوري: «عندما قدمنا ضدهم قضايا عدلية، تضاربوا في ما بينهم وتبادلوا التهم ثم ألصق بعضهم ذلك بكبار المسؤولين وممثلي التجمع، لكن نحن نعرف أن ما يدعونه من تلف الحليب ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقة أن البعض منهم كان يبيعه لحسابه الخاص، وسوف نطالبهم بذلك». توجد حاليا عدة قضايا تخص هذه التعاضدية المنهوبة، ويعتقد الكثير من صغار الفلاحين ممن كانوا ضحايا هذا الفساد الذي يستند إلى التجمع الدستوري وإلى بعض موظفي الدولة أنه قد آن الأوان لرفع المظلمة وإعادة الحقوق إلى أصحابها وفسح المجال للناس كي تعيشوا بكرامة دون أن يضطروا لدفع رشاوي وأتاوات وضرائب ما أنزل الله بها من سلطان.