فتحي العكاري ممثل ومخرج وكاتب مسرحي وأستاذ جامعي يراكم في مسيرته المسرحية ما يفوق الرّبع قرن من الإبداع والتكوين والكتابة والتنظير والأداء... وهو يمثل بالنسبة إلينا إحدى الوجوه البارزة في المشهد المسرحي على مستوى الإحتجاج والمطالبة بمسرح بديل. ولأن هذا الرجل قد تعرّض في مسيرته إلى نوع من التهميش والرّقابة خاصة كمخرج من طرف المؤسسّة الرّسمية فإننا نلتقي به في هذا الحوار السريع لنسائله عن جملة من التفاصيل الملحة, فكان هذا الحوار. ٭ حاوره: عبد الحليم المسعودي ٭ لا شك أن ما يحدث الآن في تونس من زخم الأحداث الناتجة عن ثورة 14 جانفي قد يفيض عن الإدراك بالمعنى المشهدي والفرجوي للكلمة, كيف ترون ذلك؟ ما يحدث الآن هو إحداث يفوت الإدراك, لتفسير هذا بعض المسبقات أوّلا إن ثورة تونس لا تخضع لأي نمط مرجعي ولا لأيّة آلية فكرية تمكننا من الإدراك. ثانيا: سلطة الإدراك قد تبدو بالية الآن, فلطفا منكم اتركوني أعيش زخمها, ثم سيأتي لا محالة التّحليل والقراءة والتفسير. ثالثا : إنّ البوعزيزي الذي تحوّل إلى أيقونة لم ينتحر بل إن المجتمع التونسي على الأقل قد ساهم في انتحاره. كما انتحر من تشبّه به وتعاطف معه ما عدا هذه المسبقات لي بعض الملاحظات الأخرى قبل التطرق إلى الإدراك بالمعنى المشهدي والفرجوي للكلمة. الملاحظ أن ما حدث ويحدث في تونس وفي العالم العربي فاجأ الجميع خاصة النخبة «المستثقفة» ومحترفي السّياسة وهي في الآن أي هذه الأحداث تلزم الجميع بواجب التفكير في ذاتها في استقاليتها في بؤسها وفي تفاهتها التاريخية وتلزمها بتحمل مسؤولياتها المستقبلية. في ما يخص الجانب الفرجوي والمشهدي علينا إعادة النظر في معنى ما أسسه أرسطووبريشت وكل التجليات والتمظهرات الفرعية لهذا وذاك أي أصل المسرح. ٭ إذن ما هو أصل المسرح ؟ على ضوء مهامه البديلة؟ أصل المسرح كما أصل الإبداع حاجة وضرورة للإنسان. إن تنافس الشعراء في عهد أرسطوأوجد فيهم ضرورة المشهد الفرجوي مع ضرورة المسموع والمنطوق. قنن أرسطوالمسرح للمحافظة على النظام بالتطهير والمحاكاة وبالقوانين الأخلاقية الصارمة في ذلك الوقت زمن ما بعد ديمقراطية بيريكلاس وبداية الأوتوقراطية الإمبراطورية زمن الاسكندر المقدوني, وجاء بريشت بعد أكثر من خمس وعشرين قرنا ليعوّضه بفكرة التغيير إلى عالم منشود. إن الدرس البريشتي وهوثورة جذرية على المبادئ الأرسطوطالسية في حاجة إلى تأمل واستلهام في الممارسة المسرحية المستقبلية دون تبني الموضة البريشتية المشوهة. ثورة تونس هي أساسا ثورة تهديم تفتقد إلى مشروع بناء تغيب فيه مشروع مجتمعي مؤطر بحزب ما وقيادة ما, هو إذن مشروع تحرّر وانعتاق من نظام بدا بائدا وعلينا الآن بصفة قطعية الانكباب على مسرح تحريري يؤهلنا مستقبلا إلى مسرح حر. مع الإشارة أن هنالك تراكمات في المسرح التونسي المعاصر بفعل هذا التحرر في ظل الرقابة والتعطيل والتهميش. ٭ الآن وبعد حدوث هذه الثورة, يظل سؤال الإبداع معلقا من منطلق أن أهمّ ما أبدعه المسرحيون على الأقل في زمن الدكتاتور الهارب كان إما احتجاجا أو نقدا استعاريا أومحاولة في مراوغة الرقابة والتخلص من مخالبها. في هذا الجوالمفعم بالحرية ماهودور الإبداع المسرحي انطلاقا من ضرورة التباين مع ما سيق ؟ (يتنفس الصّعداء...). ملاحظات مبدئية أولا: أن هذه الثورة , مع أنها ثورة على نظام قاهر مستبد متسلط قامع وما إلى ذلك فهي ثورة على مفهوم الثورة كما علمناها إلى الآن , باعتبارها ثورة فريدة في سياقها التاريخي ومتفردة بلغتها الخاصة وأسلوبها وخطابها، إنها ثورة لا تشبه أي نموذج أومفهوم للثورات المتعارف عليها , وما يزيد في صعوبة تمثلها مفاهيميا. ثانيا أن المسرح أوالفن بصفة عامة لم يوجد إلى الآن ولم يؤسس إلا من منطلق الألم. إن المعادلة المؤسسة إلى الآن أن الألم يروي ويترجم وأن الهناء يعاش. أما إجابتي عن سؤالك: الحرية مفهوم نظري ينشدها الفرد بوصفه مواطنا. بالنسبة إلينا كمسرحيين تبقى الحريّة هي المحرّك الأساسي, بمعنى أنها تمكننا من التّحرر من ذواتنا. بصفة عملية وعاجلة. علينا أن نمارس المسرح أوّلا كضرورة لا كعادة الآن , ثم علينا الانتباه والإنصات إلى حاجة المواطن - ونحن منه - أننا بطبيعتنا الإنسانية منجذبون إلى الرّوحاني وعلى اللغة المسرحية كنتيجة حسب رأيي الآن أن يتصالح من خلالها المسرح مع طقسية وروحانية الشفرة تجنبا لانجرافها إلى الديني وبالتالي استثمارها واستغلالها خارج رهانات المسرح الطقسي وفي اتجاه مسالك أخرى. ثالثا: كم يسعدني أن الشباب الثائر الحاصل على شهائد جامعية وهوفي حالة بطالة وإلى جانبه اليد العاملة العاطلة حين تظاهروا في حالة من السّعادة والنشوة للمطالبة بحقوقهم بواسطة النكتة والفكاهة والفرح أي البعد النقدي اللاذع. على المسرحيين أن يتطبعوا بطبائع المرح والهزل والسخرية اللاذعة. القاتلة. رابعا: إيقاعية الثورة تلزمنا بالتفكير في إيقاعية الكتابة الفرجوية المسرحية أي في موسيقيتها. خامسا: فوجئنا «كمستثقفين» كم نحن رازحين تحت أثقال إبداع المنهزمين إلى الآن. نحن مدعوون الآن إلى إعادة التفكير في معنى معرفتنا ونجاعتها وفي الحد الأدنى من الإيمان أننا نعترف بدمقرطة المعرفة , وأننا ماضون لا محالة إلى ما نجهل, وأكاد أقول أن الإرتباك والهشاشة يؤسسان لمسرح الحداثة اليوم. ٭ هل يمكن أن نتحدث الآن عن عودة فورية للمسرح السياسي؟ إذا كان تعريفنا للمسرح السّياسي كما عرّفه وقنّنه إروين بيسكاتور, Erwin Piscator فإجابتي بالنفي. وإن كان تعريفنا بمعنى علاقة المسرح بالمواطنة فهذا أمر تقني جدا. إن مسرح الواقع قد قضي أمره, نحن الآن في نظرية السّديم أوالكاووس Théorie du Chaos نحن الآن في تعدد الطوباويات L'hétérotopie وبالتالي فإن المسرح الذي يجب أن يؤسس هوالمسرح الذي لا يمكننا إيجاده أوصناعته. إنه مسرح المستحيل الذي يتعدى ويتعالى عن القناعات والقيم الآنية ويصبوإلى معرفة جهله وإدراك حدوده ذلك أن مقولته كما قال آرتو Artaud: «دائما أبدا , أبدا دائما». ٭ ناديتم في الأيام الماضية بقوة بتنحي مدير المسرح الوطني التونسي، ما هومقترحكم البديل لمستقبل هذه المؤسسة؟ بكل لطف ناشدت مدير المسرح الوطني محمد إدريس بالتخلي والاستقالة من مهامه وفكره السّياسي وانتسابه للنظام القديم , كما ناشدته بإلحاح للتصالح مع ذاته كفنان, أما عن مؤسسة المسرح الوطني التونسي فعليها أن تمثل ما في هذا الوطن من مخيال وشاعرية مسرحية مختلفة لتكون وطنية للجميع. وأن تتحول هذه المؤسسة إلى مصلحة عمومية تخضع ميزانيتها إلى الشفافية والمحاسبة. ٭ ما هي مشاريع فتحي العكاري الآن؟ يشرفني أن استحضر أوّلا مقولة رولان بارط أن «المتعة واللذة هي دوام تحقيق الإشباع وأن الرّغبة هي دوام البحث عن الإشباع والإرتواء», كنت ولا أزال ضد المقاومة ومع النضال, الآن ومن غريب الصدف وبعد تأسيس المسرح العضوي عام 1982 بصدد تأسيس شركة «مسرح البديل» متكونة من شخصي ومن طلبة من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي بتونس عسانا نكون في مستوى المسؤولية التاريخية التي أحببنا أم كرهنا مناطة بعهدتنا, وأوّل مشاريعنا مسرحية «وطن» من إخراج رياض حمدي تدور أحداثها حول الحوض المنجمي وجماليتها ما بين الواقع والفن . وثاني المشاريع الانكباب على إعداد عمل مسرحي بعنوان «شعبي... جدا» ومع هذا الاستنارة بجامعيين مختصين للتفكير فيما نعمل قصد النشر. وفي نهاية هذا الحوار أقول إنيّ كنت رجلا بلا وطن , وأصبحت الآن وطنا لرجال.