كثيرون ممن أتحدث إليهم في هذه الفترة التي سيطرت فيها السياسة على كل ما عداها، مشفقون على البلاد من أن يستمر فيها وضع الفوضى المنتشرة. وليس للمرء أن يبرر ما يحصل، ولكن له أن يستقرئ من الثورات الحاصلة ما يستنير به ويضيء به الطريق، وسيجد أن كل الثورات التي قامت في العالم بدأت بفترات من الاضطراب. فليست القيم هي القيم، وليست المسلمات هي المسلمات، وخاصة ليس البشر هم البشر. لقد طبعت الثورة الناس بعقليات جديدة. والمرء عادة في الظروف غير العادية كثيرا ما يستعجل الأشياء، وتغيب عنه أدوات التقييم التي كان يقيس بها، في انتظار أن تطفو على السطح أدوات تقييم جديدة، وهو بالثورة ينظر لما حوله بنظرة فيها الكثير من الرومانسية، ويعتقد أن الثورة ستحقق له في أيام ما كان يتحرق له خلال سنوات فيجد نفسه وقد تحرر من كل المكبلات التي كان تتقيد حركته وقد ارتفعت درجة ما يأمل أن يتحقق. غير أن ذلك لن يدوم، ويتم عادة تجاوزه بقدر ما يزخر به المجتمع من طاقات من التحضر والتمدن. والشعب التونسي على ما نرى وهو الذي قدر على تفجير ثورة بلا قيادة ولا إيديولوجيا لقادر أيضا على تحقيق توازنه في زمن قياسي، لا لتعود الحياة إلى ما كانت عليه، فذلك ليس مطلوبا ولا حتى جائزا، والثورة لم تقم من أجل استمرار الماضي بل من أجل تفجير الطاقات الكامنة وما أسمي بالفوضى الخلاقة وهي ليست تعبيرا أمريكيا كما يعتقد البعض، التي ستفرز وضعا جديدا متحفزا مبدعا. غير أن ذلك ليس أمرا يسير وحده أو لا يحتاج إلى مرافقة وإلى وضع خط للسير يقود المسيرة ويحميها، ومن وجهة نظرنا وقد مر شهر على نجاح الثورة والتخلص من الرئيس السابق فإنه وجب اليوم أن ننظر إلى الأمور في مستويات التصور وبلورة الحلول بشيء من التطبيقات التي لا غنى عنها ولا مفر منها. ولعله جاء الوقت لأمرين اثنين كل منهما ضروري في نظرنا ويحسن الإسراع به وصولا إلى حال من الطبيعية لا ينبغي أن يتأخر أكثر من اللزوم. أولهما : تعليق دستور 1959، وصياغة دستور جديد يتلاءم مع طبيعة المرحلة. إننا نعيش ثورة حقيقية، تستوجب الإسراع بقدر ما يمكن ودون إبطاء بوضع أسس الدولة الجديدة حتى نصل للوضع الطبيعي المتسق مع مقتضيات تلك الثورة. فالدستور القائم وزيادة على ما يتضمن من روح مرتبطة لا بطبيعة ما يجب أن تقوم عليه الدولة بل بالإستجابة لمتطلبات رؤية الفرد، (30 سنة من التفصيل على مقاس بورقيبة و23 سنة من التفصيل على مقاس بن علي)، تجاوزته الأحداث وبات غير صالح حتى مع تعديله، واستوجب الأمر إذن صياغة دستور جديد على مقاس الدولة/الثورة لا على مقاس فرد. ولقد سبق أن كتبنا على هذه الأعمدة قبل أسبوع أن الدساتير تقوم إما على أساس لجان من الخبراء يمكن تطعيمها برجال سياسة، أو عبر مجالس تأسيسية منتخبة، غير أن من اتصل بنا ومن تحدثنا معهم لا يبدو أنهم يقبلون باعتماد لجان للخبراء تتولى كتابة الدستور، ويرون أنه لا مندوحة من انتخاب مجلس تأسيسي يكون صورة للإرادة الشعبية الثائرة والثورية (ولكل كلمة منهما أبعادها ومقاصدها)، حتى يكون الدستور الجديد مرآة عاكسة للإرادة الشعبية. إذن فلتأخذ السلطات القائمة بيديها كل شجاعتها للقيام بتعليق الدستور الحالي، الذي وصلت مقتضياته إلى زقاق بلا منفذ، والإقدام على خطوة جريئة بالدعوة لانتخابات مجلس تأسيسي، على أساس تولي لجنة الإصلاحات السياسية التي يرأسها الأستاذ الدكتور عياض بن عاشور البدء بتولي كتابة قانون أساسي للدولة التونسية للفترة التي تفصلنا عن انتخاب مجلس تأسيسي يتولى في نفس الوقت مهمة التأسيس الأصلية والمهمة التشريعية، وتطوير القوانين السياسية وخاصة القانون الإنتخابي. ولا يذهبن في التصور أن صياغة دستور جديد للدولة التونسية مهمة سهلة أو بدون تحديات، فمجالات الإختلاف العميقة ليست بالقليلة، بل هي من التشتت بحيث لا يسع المرء إلا أن يتمنى أن تنجح المؤسسة التأسيسية في عملها في أقرب وقت. ثانيا: لا يمكن الحديث عن انتخاب هيئة تأسيسية في ظل مجلة انتخابية ، استهدفت خدمة تصورات معينة: أ/ منع قيام زعامات لا محلية ولا على المستوى الوطني ب/ دفع الحياة السياسية إلى التصحر ج/تحقيق إرادة السيطرة المطلقة على الفضاء السياسي للبلاد هذا على المستويات المبدئية ، ولكن وعلى المستويات التطبيقية فإن القانون الإنتخابي على صورته الحالية، يعتبر وعاء ليس أفضل منه لتكريس التزييف ، والتغطية على كل المبادئ التي جاءت بها نصوص الأممالمتحدة من أجل قيام انتخابات نزيهة شفافة تكون الكلمة فيها حقيقة لصندوق الاقتراع. والتصور اليوم يقوم على أن تكون الحياة السياسية سليمة من كل ذلك. من هنا وجب وقبل أي انتخابات مهما كان نوعها تكريس : ٭ وضع سياسي سليم ٭ طريقة للإقتراع تقوم على عكس ما سبق أن وصفنا. ومن هنا أيضا، فلا بد من طريقة جديدة للتصويت تقطع لطبيعة المرحلة مع نظام التصويت على القائمات بالأغلبية. وحتى يدرك القارئ معاني هذه الطريقة التي أريد بها منذ سنة1956 تفضيل البرامج على الأشخاص على ما كان يقال، فإن أي قائمة في دائرة معينة ترفع كل المقاعد في تلك الدائرة إذا حصلت على 50 في المائة من الأصوات مع صوت واحد. غير أن التقاليد السارية، اعتمدت دوما على نسب عالية جدا من الأصوات للفوز في الإنتخابات، باعتماد كل أنواع التزييف، بداية من تحرير قائمات الناخبين واستبعاد من لا يراد لهم التصويت، إلى التلاعب بمحتويات صندوق الإقتراع وحشوها كيفما اتفق طبعا بقائمات الحزب الحاكم . إن أي انتخابات مقبلة ينبغي أن تقطع أولا مع هذه الممارسات، وان تعتمد على طريقة للإقتراع مغايرة تعتمد النظام النسبي لا النظام الأغلبي، وذلك هو موضوع مقالنا القادم. ٭ كاتب صحفي رئيس التحرير الأسبق لصحيفة الصباح التونسية