كان يفترض بتجار الثورة المقيمين دون وجه حق في القنوات التلفزية أن يتنازلوا عن حقوقهم المالية المجزية للمعتصمين في القصبة وأن يذهبوا إلى شباب الجهات المحرومة. كان يفترض أن يقول لنا السيد محمد الغنوشي كل شيء عن حكاية «المؤامرة» منذ اليوم الأول، وليس وهو ينسحب. أنا أحب أن أصدقه حين يتحدث عن المذبحة التي أنقذنا منها حين استلم على عجل وبارتباك مقاليد السلطة في بلادنا الثائرة والخائفة، لكن كان يفترض به أن يقول للشعب التونسي كل شيء عن هذه المؤامرة والمذبحة وأسماء وانتماءات من يدبرها، لأنه وافق على مبدإ الوقوف على هرم السلطة وتولى إنقاذنا. كان عليه أن يقول لنا كل الحقائق وليس فقط ما تعرفه أمي وهو أن «أحدا ما يتربص بالبلاد». كان يفترض أن يقف السيد وزير الداخلية الذي أحببنا فيه بساطته وتلقائيته أمام الشعب بصفته المسؤول عن القوى المسلحة الداخلية ليقول لنا كل شيء، بدءا بمن سرق هاتفه الجوال ومعطفه في قلب مقر السلطة التي لا تقهر، وصولا إلى هوية الذين يتربصون بالبلاد والعباد ممن ما يزالون يوزعون الأموال والأوامر على قطاع الطرق في شارع بورقيبة والقصبة أو الكاف أو القصرين أو غيرها، وأن يمكننا من رؤيتهم موقوفين لكي نطمئن، لأنه إذا كان وزير الداخلية غير قادر على معاقبة من سرق هاتفه وكل من تجرأ على السلطة، فمن أين سيأتينا الاطمئنان نحن أبناء الشعب الذين لا نملك غير كتابة مثل هذا المقال أو الإقامة في الشارع اعتصاما إلى أن يفهم من عليه أن يفهم أن ثورة قد حدثت في بر تونس. كان يفترض بأعضاء الحكومة المؤقتة أن يفهموا أنه لا أحد منهم قام بهذه الثورة، وأن مواجهة دموية وقعت بين الشعب التونسي والجنرال بن علي ومن معه، وأن الشعب قد انتصر في هذه المواجهة، وله بالتالي الحق في فرض شروطه على المنهزمين. غير أن الواقع كشف لنا أن المنهزمين هم الذين فرضوا شروطهم، تراجعوا قليلا، مارسوا كل ألعاب التمويه والغش والمماطلة، لكنهم لم يسلموا بعد، وظلوا يمارسون شروطهم من وراء الستار أو مباشرة. ولذلك قرر الشعب التونسي أن يذكرهم بهذه الحقائق ولم تكن له وسيلة سوى الاعتصام في القصبة وفي المدن الداخلية لأنه يرى ثورته تسرق أمام عينيه، ويرى جماعة بن علي في مختلف مراتب السلطة المؤقتة التي تتحول إلى سلطة دائمة في غياب إجراءات حقيقية حتى عن مواعيد الانتخابات، أو يصولون ويجولون في البلاد رغم كل ما يقال ورغم ما يعرفه الشعب من وجود مؤامرة مفضوحة على الثورة، لذلك ما يزال الشعب مصرا على حقوقه في الانتصار وهو على حق طبعا. كان يفترض بكل من تمعش من النظام المنهزم أن لا يعول على قصر ذاكرة الشعب التونسي، وأن يخجل قليلا من نفسه أمام شباب الثورة ودماء الشهداء، أن يريحنا قليلا من نفسه منذ أن ظهرت للجميع الوطنية الصادقة للشباب الذي حرس الأحياء والمؤسسات في ليالي الرصاص في جانفي، وواجه عصابات المسلحين فيما كان الذين استثروا من المال العام لا يغادرون بيوتهم خوفا، ويكتفون بملأ القنوات التلفزية بصراخهم الفلكلوري عن الثورة. كان يفترض بتجار الثورة والمزايدين عليها الذين يقيمون دون وجه حق منذ الرحيل المدوي للجنرال في القنوات التلفزية أن يخففوا قليلا من ضوضائهم، كان يفترض بهم أيضا من باب الانخراط في النبل الذي أنشأته هذه الثورة أن يعلنوا تنازلهم لفائدة المعتصمين في القصبة عن الحقوق المالية المجزية التي ينالونها مقابل أحاديثهم الغوغائية عن الثورة وعن الشهيد البوعزيزي وعما يجب فعله بجلد الدب الذي لم يصطادوه. كان يفترض بهؤلاء أن يحاولوا لمرة في حياتهم أن يذهبوا إلى القصرين وسيدي بوزيد وغيرها من الجهات المحرومة على نفقتهم الخاصة ليتحاوروا وجها لوجه مع شبابها الذي يعرف كل شيء ولا يحتاج إلى أي شكل من أشكال خطب الوقوف على الربوة، لأن الحقيقة القديمة تقول إنه ثمة من يصنع الثورة، وثمة من يركب عليها. كان يفترض بنا، نحن مهنيو قطاع الصحافة أن نقدم اعتذارا علنيا، عاما وجماعيا للشعب التونسي. اعتذار عام عن تورطنا الجماعي في لعبة الصمت طيلة عقود، وهنا أحب أن أوضح أن هذا الاعتذار لا يعني أولئك «الزنوس» في مهنة الصحافة، كتائب عبد الوهاب عبد الله الذين ينتظرون الوحي كل مساء قبل نشرات الأخبار وطبعات الصحف، الذين شتموا الشعب التونسي في إطار تأبيد حكم الجنرال والذين كانوا يرهبوننا بأنه لا توجد في الصحافة التونسية سوى مدرستان: «مدرسة لمدح الجنرال الأزلي وطلب نياشينه ومنحه، ومدرسة اسمها الهجرة وأكل الخبز وحتى الكافيار خارج الوطن». أشياء كثيرة كان يفترض أن تحدث في هذه الثورة منذ البداية، نكتبها للحكومة المؤقتة الثالثة على أمل أن يحدث بعضها على الأقل وحتى لا نكرر أخطاءنا التي جعلت شباب البلاد يرابط في القصبة وغيرها.