إذا كانت الثورة كما عرّفناها فهي تقيم نظاما جديدا واعدا وصالحا يرتكز على الشرعية الشعبية ويحقق المصالح العامة و المتوازنة بأعلى قدر من العدل، وهذا يعني أن الثورة نقيض للفوضى. والفوضى هي حالة انعدام النظام العام أو الأمن العام أو انعدام مرجعية القانون عند احتدام الخلاف والاختلاف والصراع، وتنتج الفوضى من الفشل في حفظ الثورة خصوصا حين تفتقر الثورة إلى القيادة الواعية والمجرّبة، ويحصل أن تسود الفوضى لبعض الوقت أو لوقت طويل عندما تضعف السلطة السياسية أو تسقط الدولة، وقد ظهرت في أوربا الحديثة رؤى ودعوات فوضوية خلال ق 19 دعت بعضها إلى إلغاء الدولة، واعتبرت الماركسية (التي تقول بإنهاء الدولة أيضا ولكن بعد انجاز الاشتراكية ثم الشيوعية) بأن الفوضوية هي خيار أو منطق المثاليين والحالمين. والفوضويون يبالغون بغير واقعية في رفضهم لكل تراتبية مؤسساتية ويدعون عوضا عن ذلك إلى الاعتماد على تلقائية المبادرات الشعبية والثورة في تونس جمعت بين السياسي والاجتماعي و الثقافي لكن المبالغة في المطالبة من طرف كل القطاعات و اشتراط الاستجابة فورا لذلك وعدم تمييز الآجل عن العاجل، ذلك تعجيز يرهق الدولة ويضعفها وعواقبه وخيمة على الثورة والتي ليس من مصلحتها ان تضعف الدولة أو ان يقع خلط العمل الثوري في الممارسة بما يؤدي الى الفوضى. سابعا) ثورة الحرية الكرامة يوم 14 جانفي 2011 يوم فاصل بين ما قبله وما بعده في تاريخ تونس وفي تاريخ العرب والمسلمين في جنوب المتوسط وغرب آسيا. كانت إسرائيل تتباهى وتسوّق نفسها أنها الديمقراطية الوحيدة في هذه المنطقة. انضافت تركيا منذ سنوات.. الآن دخلت تونس فمصر نادي الديمقراطية و ستثبت الأيام أن الديمقراطية في منطقتنا إن لم يقع إجهاضها لا تتسع للاحتلال والاغتصاب كما لم تتسع للاستبداد والنهب والفساد. خصوصية ثورة التونسيين وخاصة الشباب : إنها قد استحضرت وأحيت أفكار النهضة تونسيا وعربيا منذ حوالي منتصف ق 19م. التفتح على علوم ومناهج وتعليم الغربيين وحسن استغلال وتوظيف التقنيات الحديثة خاصة من قبل شبان أفلحوا في ما فشل فيه آباؤهم وأسلافهم حين تواصلوا مع أنفسهم ومع المستقبل بإبداع جعلهم يعيشون اللحظة التي يعيشها الشبان في الغرب التعلق بفكرة المجتمع المدني وبمجتمع المعرفة دون حدود أو قيود أو محرمات أو رقابة... كما هو الأمر عند من جرّبوا ونجحوا، أي الذين تحدّوا ثم تقدّموا فسعدوا ومنهم تعلّموا واستوعبوا الدرس جيّدا ج) افتكاك الحق في التمتع بالحريات كلها عامة وخاصة، وأنها هي ما بها تتجسد إنسانية الإنسان، عقلا وجسدا، وعيا علميا وسلوكا حرّا لا يحدّه ألا حدّ الإضرار بالآخر. د) التبني الكامل غير المشروط (للحداثة السياسية خاصة في مجال التعبير والنشر والتواصل والتنظيم والتظاهر وفي بناء المؤسسات الممثلة، واعتمادها مرجعيات دنيوية بشرية قابلة للتحيين بحسب دراسة الجدوى أي تستمدّ قداستها ممّا ينجرّ عنها من فائدة ملموسة ومباشرة بمعنى عدم انتظار الوعود بما هو غير ملموس أو منظور في الحياة وفي التاريخ. ه) إقدام الشعب وخاصة الشباب على إبداع الثورة والتضحية من اجل انتصارها عبر الفصل بين الدولة والأحزاب جميعا، وذلك لا يكفي لوقاية الدولة إن أردناها أن تكون مدنية وعادلة ومستقرة في المستقبل بعد هذه الثورة، بل يجب أن يقع النص في دستور الثورة التي تحققت في فصل مستقل على ما يفيد التمييز بين الدولة والدين (أو الأديان) فكل التونسيين باستثناء اليهود هم مسلمون والعاقل، والوطني، والديمقراطي، والحقوقي والإنساني، والعالم (وشبان تونس) كل هؤلاء الآن بعد الثورة، هم من المواطنين حسب الدستور والقوانين. هذا التمييز مفيد دائما و مطلوب الآن فالمواطنون يمارسون السياسة حقا مشروعا وشأنا عاما مشتركا وحياتيا، بمعزل عن حالتهم كتونسيين مسلمين، حتى وإن لم يختاروا أن يكونوا اسلاميين كما يراد لهم من طرف البعض، فهم مؤمنون، و الاسلام أو الإيمان شأن خاص بكل فرد بينه وبين ربه و هو أمر محترم لا علاقة له بالدستور باستقلال كامل عما هو سياسي وأفكار النهضة والإصلاح في تونس وفي البلاد العربية تأثرت أو اقتبست أفكار التنوير في أوربا الغربية حول أن الإنسان يجب أن يتحرّر من الطبيعة ومن سلطة الأسلاف الأموات أو من السائد والموروث أو من النقل كي يتمتع بالحياة وهي قصيرة، وبالمعرفة وهي غير محدودة، وبالفكر الحر وبالعمل وهو مفتوح (وكلاهما لا حدود لهما لا من الطبيعة أو فيها ولامن داخل التاريخ أو فيه.. وكل ذلك يعني ان الانسان قد انفرد في التاريخ وفي الطبيعة بالأهلية للحرية صناعة أو إبداعا وتلذذا. وعقل كل إنسان، أعني كل مواطن، بمنطق الثورة هو السلطة، التي تجعل كل تونسي سيد نفسه، لا يعتدي على حرية غيره، ومع الآخرين مثلما صنع الثورة، يصنع وطنا يتسع لكل التونسيين.. ويمكن إجمال خصوصية وتاريخية الثورة بتونس في ما يلي : انها ثورة من أجل الحرية والكرامة انها ثورة من أجل إعلاء القانون والتفريق بين السلط وانهاء الجمع بينها انها ثورة من أجل احترام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة انها ثورة مدنية سلمية و ديمقراطية. انها ثورة أشعلها وقادها وانتصر فيها الشباب خاصة. انها ثورة شعبية عارمة شاركت فيها كل الفئات من كل المدن والجهات والأجيال انها ثورة لم توعز بها السفارات أو أجهزة المخابرات الاجنبية ولم يتفطن لها حتى جهاز أمن النظام السابق انها ثورة لم تفجرها القوى السياسية التونسية وإن أسهمت فيها بعد تفجّرها أي هي ثورة اندلعت واستمرت بدون قيادة، وفي ذلك قوتها وأيضا يمثل ذلك خللا فيها يمكن أن يتهدّدها الخطر انها ثورة لم ترفع شعارات طائفية أو دينية، قد تفرّق ولا توحّد انها ثورة لم يخذلها الجيش الوطني كما أراد النظام السابق توريطه في ذلك، بل إنه أي الجيش وبقيادته الحصيفة حمى الثورة والشعب وشرّف الجندية التونسية. انها ثورة غير مسبوقة في المحيط العربي خلال العصر الحديث، (إذا صنفنا الحركة التي قادها علي بن غذاهم بالانتفاضة 1864). وإذا ما صنفنا ما حدث من تغييرات فوقية في مختلف البلدان العربية في خانة الانقلابات العسكرية، فإن ثورة الحرية والكرامة التونسية، هي أيضا أم الثورات العربية وها أن البداية الأولى لذلك أو الثورة العربية الثانية هي الثورة المصرية. وهكذا لم يعد الكيان الصهيوني الديمقراطية الوحيدة في المنطقة وقد استمر ذلك دعائيا ضدنا نحن العرب لزمن طويل يستفيد منه الاحتلال الصهيوني لارضنا بذريعة انعدام الديمقراطية عندنا والآن سنرى بعد ثورتي تونس ومصر وغيرهما أن العرب الفقراء رغم ثروة النفط، سيصبحون أقوياء بالديمقراطية وبالحرية وطبعا بالعلم، بالنفط أو بدونه.