كشف السيد الهادي خليل وزير التربية السابق في تصريح خصّ به «الشروق» عن تخطيط نظام بن علي في سنواته الأولى لارتكاب «مجزرة» خطيرة في حق التعليم بتونس كانت لو وقع تطبيقها ستؤدي بعدد كبير ممّن دخلوا المدرسة بعد سنة 1990 (أغلبية جيل الشباب الحالي) إلى مآل الأمية والجهل. وعاد بنا الهادي خليل إلى ما قبل 1987 عندما توصّل رفقة لجان مختصة في المجال التربوي إلى إعداد مشروع متكامل لإصلاح المنظومة التربوية باعتباره يشتغل منذ 1968 في القطاع التربوي وهو المشروع المعروف ب«المدرسة الأساسية». وفي أفريل 1988، تمّ تعيين «سي الهادي» وزيرا للتربية القومية بعد أن قضى حوالي سنة في خطة كاتب دولة للتربية (من ماي 1987 إلى أفريل 1988). وأثناء وجوده على رأس الوزارة، أشرف على بلورة المشروع النهائي لإصلاح المنظومة التربوية الذي يعتمد على المدرسة الأساسية، وذلك دون المسّ من المبادئ الأساسية لهذه المنظومة التي انطلقت منذ الاستقلال مع نظام بورقيبة (3 مبادئ) وهي المجانية والإجبارية واحترام الهوية العربية الإسلامية، وكلها مبادئ جاء بها قانون التعليم لسنة 1958 المعروف بقانون «المسعدي». أمام اللجنة عندما كان المشروع في طريقه إلى مجلس النواب للمصادقة عليه، بعد عرضه بمجلس الوزراء سنة 1989، تمّت إقالة الهادي خليل من خطته كوزير للتربية (أفريل 1989) وفي الأثناء فاز في الانتخابات التشريعية وأصبح عضوا بمجلس النواب حيث اضطلع بمهمة رئاسة لجنة التربية والثقافة والإعلام والشباب بالمجلس. وعند عرض مشروع قانون إصلاح التعليم على مجلس النواب (وهو المشروع الذي تركه المتحدث جاهزا قبل مغادرته وزارة التربية) كان من الطبيعي أن يقع عرضه على اللجنة المذكورة التي يترأسها الهادي خليل. المفاجأة عند اطلاع اللجنة على المشروع المذكور، تفاجأ «سي الهادي» وبقية أعضاء اللجنة بتعمّد الحكومة آنذاك (وزارة التربية) المسّ بروح مشروع القانون وخاصة بالمبادئ الثلاثة المذكورة وهي المجانية والإجبارية والهوية العربية الإسلامية.. حيث وقع «إخفاء» هذه المبادئ من المشروع واتضح ان هناك تعمّدا واضحا للسكوت عنها، وهو ما سيفتح المجال لكل التأويلات ويمكّن الدولة بالتالي من التخلّص تدريجيا من مسؤوليتها في ضمان مجانية التعليم وإجباريته واحترامه للهوية العربية الإسلامية على امتداد السنوات الموالية.. وهو ما يعني أن التعليم سيصبح بمقابل وسيصبح غير إجباري، ويتحوّل هذا المكسب الهام الذي أسسه حكم بورقيبة وجعل منه مصدر فخر لكل التونسيين، إلى مجرّد إمكانية متاحة لميسوري الحال فقط، أما أبناء الفقراء وغير القادرين على تحمّل نفقات الدراسة فسيكون مصيرهم الأمية «الإجبارية» بما أن التعليم سيصبح غير إجباري حسب المشروع، كل هذا إضافة إلى ما كان سيسببه هذا المشروع لو مرّ على ذلك النحو من إقصاء للهوية العربية الإسلامية من عقول وأفكار أبنائنا، وما قد ينجرّ عن ذلك من تبعات خطيرة يطول مجال شرحها. استماتة تمسّك الهادي خليل وبقية أعضاء اللجنة بضرورة التنصيص صلب القانون المذكور على تلك المبادئ الثلاثة مستندين في ذلك إلى مبدإ «الحقوق المكتسبة» (الحق في التعليم وفي مجانيته)، وهي الحقوق التي كسبها التونسيون على مدى سنوات حكم بورقيبة. كما استندت اللجنة أيضا إلى الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صادقت عليها تونس والتي تنص بالخصوص على أن تتولى كل دولة تمكين الأطفال حتى سن 16 عاما من حق التعليم والصحة ووسائل العيش، وهي اتفاقية دولية لها علوية على القوانين الداخلية. «استسلام» لم تجد الحكومة ورئاسة الجمهورية آنذاك غير الاستجابة لموقف لجنة الهادي خليل (بمجلس النواب) وبالفعل تم اصدار القانون سنة 1991 بعد التنصيص صراحة على مجانية وإجبارية التعليم وعلى ضرورة احترامه للهوية العربية الإسلامية. ويقول السيد الهادي خليل في هذا المجال إنه لو لم تتمسك اللجنة بموقفها (وهو الموقف الذي سيكلفه الإقالة الجبرية من رئاسة لجنة التربية والثقافة والإعلام والشباب بمجلس النواب مباشرة بعد صدور القانون) لكان مشهد المنظومة التعليمية اليوم مغايرا في تونس، ولكانت نسبة التمدرس في الجيل الحالي منخفضة تماما، وهو ما خطط له نظام بن علي ومستشاريه آنذاك.. وقد اعترف وزير التربية في ذلك الوقت (المرحوم محمد الشرفي) بأن مسألة التخلي عن تلك المبادئ الثلاثة لم تكن بيده بل كانت بضغوطات من رئاسة الجمهورية!