قيل إن ملكة حب الاطلاع هي أم المعارف. كما قيل إن الانسان يبتدئ يساريا ثوريا ثم يضحي وسطيا مهادنا ثم يُمسي يمينيا محافظا. لعلّ في كل من القولين تكمن حقيقة السلوك البشري إن لم نقل على الأقل بعضها. ذلك أنه في القول الاول ينشأ الانسان منذ ولادته وخروجه من العدم الى وجه الدنيا يتحسس محيطه وتحكمه ثنائية الدفع نحو طلب اللذة والدفع نحو تجنّب مخاطر الواقع (Principe de plaisir et principe de réalité). وبتجاوزه سن الستة أشهر يتواصل نمو عقل ابن الانسان بينما يتوقف النمو العقلي لابن القردة عند حدود القدرة على التقليد وينطلق العقل البشري في توسيع مداركه لفهم محيطه والتفاعل معه ذلك المحيط الذي نجده شديد التأثير على نسق تطور العقل لدى الطفل وتوازنه العاطفي. يقولون ان منظومة حقوق الانسان ارتقت الى مرحلة متقدّمة ما يسمّى بالجيل الرابع والحال ان أبجديات تلك المنظومة تقتضي التوفير لذلك الطفل القاصر المولّى عليه محيطا عائليا يضمن الدفء العاطفي من أبوين ملازمين له برباط الزواج القار المقدّس. فالطفل الذي يعيش في مجتمعات تخلّت عن قداسة الأسرة ورابطة الزوجية محروم من أبسط حقوقه الأولية ويصيبه شرخ في توازنه التربوي لا يمحوه توفّر الأجيال الرابعة من حقوق الانسان التي تتوفر له وهو كبير. إن الحرص على قداسة حقوق الانسان البالغ لا يجب ان يكون بالتفريط في حقوق الانسان الطفل. إنّي أذكر فيما أذكر لما توليت سنة 1987 خطة قاضي ناحية بتونس العاصمة وكانت محكمة الناحية في ذلك التاريخ تشغل الجزء الخلفي المهدّم حاليا من بناية وزارة العدل وتشمل أربعة عشر قاضيا منهم خمسة ينظرون في مادة المخالفات والجنح وثمانية في المادة المدنية وقاض واحد في مادة النفقات والتبنّي وفتح الصناديق الحديدية بالبنوك واحصاء التركات الشاغرة. وكان رئيس محكمة الناحية أنذاك القاضي الفاضل السيد صالح بوراس الذي كان لا ينقطع عن ترديد قولته «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف». لقد كنت أنا القاضي المكلّف بالتبني وكانت جلسة الحكم بالتبني مكتبية بحضور ممثلة عن مركز رعاية الطفولة بمنوبة وكاتبة محكمة. وكان اللقطاء من الأطفال بالمركز المذكور الذين لا يُسعفهم الحظ في حصول تبنّيهم من طرف العائلات يواصلون نموّا أعرج منقوصا على المستويات الثلاثة: العاطفي والعقلي والفيزيولوجي (مثل التبوّل اللاإرادي) وقد يتأخر البعض في القدرة على النطق. إن الأبوّة او الأمومة هي التي تولّت الرعاية والتربية وليست تلك التي تولت الانجاب الطبيعي فقط. وقد حدث أن وقع تبنّي بنت بعد أن تركتها أمها العزباء بالمستشفى ولما كبرت تلك البنت واتضح لها ان أبويها هما بالتبني هربت منهما بحثا عن والدتها الطبيعية وتنقّلت من القيروان الى بنزرت ليس بقصد اللجوء اليها كأم وإنما للانتقام منها لأنها أهملتها. كما حدث أن جاءتني بنت في عمر الزهور (18 سنة) واشتكت من كونها تعرفت على شاب يروم الزواج بها غير أن الاشاعة في الحي بين الاجوار أنها لقيطة وأمّها احدى الجارات سيّئة السمعة، ولما اطلعنا على الارشيف وأخبرناها بكونها مجهولة الأبوين على الاطلاق ارتاحت نفسانيا ولم تخسر خطيبها. إن التبنّي يطرح عدة اشكالات من بينها كون الطفل المتبنّي قد يعرف لما يكبر بذلك التبنّي ويُعيّر زملاؤه وأصحابه فتسوء أحواله النفسية غير أن بعض الأزواج المتحصلين على حكم في تبنّي أحد الاطفال اللقطاء يتصرّفون بحكمة مناسبة لما يعمدون الى التغيّب عن معارفهم مدّة من الزمن ثم يرجعون بالطفل المتبنّي على أنه ابنهم الطبيعي فيموت السرّ معهم ولا يتأذّى الطفل. إن الطفل ينشأ صفحة بيضاء وما أصدقها من حكمة لمّا قيل: التعلّم في الصّغر كالنقش على الحجر؛ وقد أجمع علماء النفس حول الطفولة ومن بينهم العالم المشهور بياجي (Piaget) أن أخصب فترة في الحياة الذهنية هي فترة ما قبل البلوغ وهي ما يعبّر عنها (Période de latence) ذلك أن الطفل مازال لم يتعرض بعد لصراعات البلوغ والمراهقة. قد كنت إبنا لوالدين مباشرين للفلاحة بالوطن القبلي في أملاكهما الخاصة وقضّيت طفولتي بين الاشجار في الطبيعة الصافية ولم أشعر بصراعات المجتمع السلطوية والاقتصادية بين مالك وخدّام ومؤجر وأجير وبورجوازي وبروليتاري ومسؤول إداري وموظف بسيط كنت أطالع بنهم جميع الكتب والمجلاّت الى حد أني لم أترك شيئا منها بالمكتبات العمومية بدار شعبان الفهري ونابل. طالعت كثيرا باللغة العربية والفرنسية ونتج عن هذه الهواية المباركة أن نجحت في امتحان شهادة ختم الدروس الابتدائية ومناظرة الدخول الى السنة الاولى من التعليم الثانوي بمعدل تجاوز 15/20 وكنت الاول في نطاق ولاية الوطن القبلي وسلّمني ا لوالي في ذلك التاريخ السيد محرز بالأمين جائزة دسمة تتمثل كذلك في عدة كتب مطالعة. وكانت الجرائد في ذلك التاريخ (الصباح والعمل) تورد نتائج تلك الامتحانات وأسماء الناجحين وذلك خلال شهر جويلية 1964 وحصدت عديد الجوائز خلال دراستي الثانوية بالمعهد الثانوي المختلط بنابل (المعهد الفني محمود المسعدي حاليا) وقد أثّرت فيّ مطالعاتي حيث تعلقت بفكرة العدل لأنه أساس العمران وان العرب لم يصبحوا رجالا وأمّة قائمة الا بعدل الاسلام. وكنت أشعر بمرارة بسبب الواقع الحالي المتردّي للشمال الافريقي والحال أن عصرنا يستوجب قيام التجمعات القوية اقتصاديا وسياسيا والا فالمصير هو الاندثار. وقد حرصت على دخول مؤسسة القضاء لايماني بأن القاضي له أنبل مهمّة على وجه الارض، وقداستها تفترض أن يتولاّها صنف من البشر جبلّته المروءة والأريحية والترفع عن نوازع الغريزة في الجري وراء الربح المادي لأن القناعة كنز لا يفنى بشرط توفر الكفاية. كما كنت دوما من دعاة اخضاع القاضي المنتدب الى اختبار نفساني معمّق يثبت منه خلوّه من العقد النفسية مع الملاحظ ان السلطة التنفيذية بزعامة رئيس الجمهورية والمتولية لاجراءات الانتداب لا تقبل حسب مصلحتها قضاة ذوي شخصية قويّة يوظفونها في تكريس مبدإ مراقبة السلط الثلاثة لبعضها. لمّا كنت على أبواب اجراء مناظرة القضاء تبادلت الرأي مع بعض زملائي ومعارفي الذين كانوا يتهيّبون منصب القضاء لعدم ضمان القانون العادل الذي سيُطبّقونه وقلت ولازلت أقول أن الذي يصعد الطائرة غير المناسبة في اتجاهها ثم يسعى الى تعديل ذلك الاتجاه خير وأنجع من الذي يبقى خارجها وينشغل بالانتقاد فيكون في هذه الحالة «كالكلب الذي ينبح على طيّارة» لا سمح الله. لقد باشرت خطة القضاء بداية من شهر أكتوبر 1977 وتمّت تسميتي بالمحكمة العقارية فتوليت المسح العقاري بمعتمدية الرقاب عمادة فطناسة فقمت باتمام بقية المنطقة A بعد أن كان تولاها زميلي المحبوب السيد فرحات الراجحي ثم انتقل الى المقر الاصلي للمحكمة العقارية بالعاصمة. وإني أذكر فيما أذكر ان والي سيدي بوزيد أنذاك السيد صالح البحوري زار فرع المحكمة العقارية بالرقاب وكان دمث الاخلاق فرحّبت به كما رحّب به السيد البشير مخلوف الذي كان يسوق بي سيارة لاندروفر التابعة للادارة والتي أنتقل عليها لتحديد الأراضي الفلاحية بوصفي رئيس لجنة المسح العقاري ذلك أنهما يعرفان بعضهما جيّدا بحكم الجوار بالمنستير منذ صغرهما. وأثناء تنقّلنا معا في مدخل مدينة الرقاب أشار السائق المذكور الى مقبرة لعديد الشهداء الذين سقطوا في مقاومة الاستعمار ولاحظ للوالي وهو يضحك: «أرأيت كم يوجد من شهداء الكفاح الوطني من هذه الجهة والحكومة لا تعطها حق قدرها وتبالغ في ذلك إلا أن العمل بين أهالي في نطاق القيام بالابحاث الموطنية الاستحقاقية جعلني معجبا الى يومنا هذا بعقلية الأمانة والثقة والجدية التي تميّزهم. فجميع نزاعاتهم يحلّونها بالثقة وتحكيم كبارهم من رجال «الميعاد» ولم أجد أحدا ينكر تعامله مع غيره رغم غياب الوثائق وكتائب التفويت، فالشعور بالأنفة والترفّع عن الربح الرخيص بانكار حقيقة التفويتات غير الموثقة هما ميزة الهامه وبلغني أنهم في اجتماعاتهم في ذلك التاريخ يتحدثون باعتزاز بكونهم قالوا للباي: من بيّاك؟!» وفي ذلك اشارة الى انهم لولا بقاؤهم على الولاء للبلي زمن ثورة علي بن غذاهم الماجري سنة 1864 لانتهى هذا الباي مغلوبا معزولا. انتهى الجزء الاول ملاحظة: تناول الاجزاء اللاحقة ما عايشته حول تدليس انتخابات 1981 وحول التجاوزات إبان ثورة الخبز في فريانة وحول تواطؤ مدير المصالح العدلية السابق في قضاء رشوة ونقلتي نقلة عقاب وحول اشكاليات الرسوم المجمدة وحول التجاوزات بالمعهد الاعلى للقضاء ونقلتي نقلة عقاب وحول تطهير القضاء من عصابة القضاء قصد الارتقاء به الى مستوى طموحات ثورة الحرية والكرامة للشعب التونسي الأصيل. بقلم القاضي: محمد بن عبد الله بن سالم (رئيس دائرة بمحكمة التعقيب حاليا)