ربما لم يفاجئ العقيد الليبي معمر القذافي الكثيرين من حيث ما اقترفه من عمليات إبادة ضد معارضيه منذ تفجّر الثورة التي استهدفت تغيير نظامه لكنه بالتأكيد فاجأ العديد ب «صموده» في هذه المواجهة وإصراره على عدم الاستسلام ومواصلة خوض هذه المعركة حتى نهايتها «بيت بيت... دار دار ... زنقة زنقة» متحديا بذلك العالم الغربي نفسه.. وبلا شك فإن استمرار تحدّي العقيد يستمدّ «شرعيته» في رأي القذافي من التقدّم الذي باتت تحققه كتائبه على الأرض حيث واصلت أمس زحفها نحو بنغازي بشكل فاجأ الثوار ذاتهم لكن هذا التطوّر الميداني لا تقابله في الحقيقة خيارات كبيرة أمام العقيد للخروج من هذه الأزمة... «بلا ثمن».. ما هو واضح أن القذافي يعمل اليوم على كسب الوقت وعلى الخروج من هذه المواجهة ب«أخف الاضرار» (بلغة الكرة) لكن هذا الوضوح لا يسنده وضوح في مسارات وسيناريوهات الوضع في ليبيا والذي يزداد غموضا من يوم الى آخر وتغطية صورة ضبابية بات من الصعب معرفة اتجاهاتها وسيناريوهاتها... فإلى أين تتجه هذه الأزمة... وإلى أين يمضي القذافي في هذا التحدي... والى أين تسير الحملة العسكرية على ليبيا... وماهي طبيعة أهدافها... وماهي الرؤية لمرحلة ما بعد القذافي... وكيف سيتعاطى الغرب مع هذه المرحلة؟ «الشروق» تبحث في هذه الاسئلة في محاولة لإيجاد اجابة وإماطة اللثام عن حقيقة ما يدبر.. في الحقيقة ليس معروفا اليوم ما إذا كان الوضع على الميدان يستمر على الحالة السائدة أم ربما يزداد تأزما... كما انه لا يزال من غير الواضح معرفة ما سيحدث في الفترة القادمة بما أن الازمة لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات ان لم يكن على أسوئها وأخطرها.. الاجتياح البرّي إذا كانت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها قد بدأت منذ نحو أسبوعين فرض حظر جوّي على ليبيا فإنه ليس واردا بالمرة ان يقتصر التدخل الغربي عند هذه المهمة خاصة بعد ان انتقلت خلال اليومين الماضيين الى الحديث عن تسليح الثوار وربما تبادر في الايام القليلة القادمة اذا بقي الوضع على حاله الى القيام باجتياح برّي وقد لا نبالغ إذا قلنا ان الولاياتالمتحدة ترغب في بقاء الوضع على حاله وربما يسعدها اكثر إذا ازداد هذا الوضع احتداما لأن كلما تدهورت الأمور كلّما ازداد أمامها اتساعا مجال البحث في استخدام خيارات ووسائل اكبر ليس من باب حرصها على انقاذ الشعب الليبي وحمايته كما تدعي من بطش نظام القذافي بل من باب حرصها على تأمين مصالحها في هذا البلد الذي يكتنز ثروات نفطية هائلة... والغافل وحده من يتصوّر أن واشنطن أنفقت الى حد الآن 550 مليار دولار من أجل الشعب الليبي، وفق ما جاء في تقديرات رسمية أمريكية أول أمس.. وعليه فإن الولاياتالمتحدة لا يهمها كثيرا اليوم ان يرحل القذافي بقدر ما يهمها اكثر ان لا «ترحل» هي من ليبيا وإن كان ثمن ذلك سقوط مزيد من آلاف المدنيين الليبيين الذين ذرفت عليهم «دموع التماسيح»... ولم يجنوا من تدخلها الى اليوم غير «قبضة الريح»! وفي هذا الاطار كتبت صحيفة «الاندبندنت» البريطانية في مقال تحليلي للكاتب باتريك كوبيرن أن المرحلة التالية في ليبيا بعد سقوط القذافي هي التي من الممكن ان تنتج كارثة مشابهة لما حدث في العراق وأفغانستان.. وأضاف: في كلتا الحالتين أدت الحرب الى سيطرة الولاياتالمتحدة على البلاد... والمشكلة نفسها ستظهر في ليبيا... لن يكون هناك شريك محلي له مصداقية... لقد أظهر الثوار ضعفا سياسيا وعسكريا... وبالتأكيد لو لم يكن الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة الى تدخّل غربي»... لكن التدخل الغربي قد لا يقف عند هذا الحد وقد يصل حدّ العمل على تمزيق ليبيا وتفكيكها حتى يسهل شفط نفطها على غرار ما يذهب اليه خبراء أمريكان آخرون وأوروبيون... ويستمد هذا التصوّر «واقعيته» من كونه يشكّل خيارا متاحا وسهلا لأمريكا وقد يكون في نفس الوقت مرضيا للجانبين... أي للقذافي وللمعارضين... ويضمن ايضا مصالح امريكا وحلفاءها ونصيبهم من «الكعكة» الليبية ويبرّر لهم «وجودهم» هناك انطلاقا من ذريعة ان بقاءهم هذا الهدف منه حماية السلام في ليبيا، اي على طريقة ما تقوم به قوات «اليونيفيل» بين لبنان وإسرائيل وإن كان الفرق واضحا بين طبيعة «الخصمين». من جانبه يقول محرر الشؤون الديبلوماسية في صحيفة «ديلي تلغراف» برافين سوامي ان الحاق الهزيمة بالنظام الليبي ليس صعبا ولكن إيجاد حكومة متناغمة عندما يتوقف القتال سيكون التحدي الأكبر. ويعود أحد أبرز أسباب ذلك حسب الكاتب نفسه الى أن سلطة المناطق التي يسيطر عليها الثوار تقع الآن في أيدي خليط متنوّع من شيوخ القبائل والضباط من ذوي الرتب العسكرية المتوسطة الذين تخلّوا عن النظام للعودة الى ولاءات «أكثر بدائية».. تخوّف... وخفافيش وفي الإطار ذاته أبدى الكاتب البريطاني الشهير روبرت فيسك تشاؤمه حيال مستقبل ليبيا مشيرا بالخصوص الى تخوفه من تكرار ما حدث في العراق حين تدخل الغرب لتغيير النظام بدعوى حماية المدنيين مستشهدا في ذلك بعبارة قالها توم فريدمان «عند رحيل الدكتاتور الأخير، من يدري اي نوع من الخفافيش سيخرج علينا من الصندوق». ولفت فيسك النظر في هذا الصدد الى تقلّب المواقف الغربية مشيرا الى ان الحكومات الغربية تارة تحب القذافي وتؤيده ثم تصفه ب «الارهابي» لتعود مرة أخرى وتعتبره صديقا ثم تتراجع وتصفه ب «الدكتاتور» والمجرم. والحقيقة ليس مستبعدا أن يواصل الغرب تقلباته وشطحاته هذه ويتراجع مجددا ل «يعيّن» القذافي «حليفا مهما» إذا ما وجد معه صفقة «مهمة» تعفيه «تكاليف» باهظة لتدخله في ليبيا وتضمن له في نفس الوقت مصالحه على غرار ما ذهب إليه عدد من قادة الثوار الذين قالوا أول أمس إنهم تفاجأوا بعدم وجود غطاء غربي يسندهم للتقدم نحو سرت وأنهم باتوا يشعرون أن أمرا يدبّر من ورائهم». لكن هذا الرأي لا يزال مستبعدا في الحقيقة من طرف آخرين كثيرين لأن إنهاء نظام القذافي ليس قرارا أمريكيا او فرنسيا فقط بل هو محل إجماع من الغرب وحتى من «العرب الرسميين» بمعنى أن أي تراجع عنه قد يكون بمثابة «إحراج كبير» لمن يوافق عليه وقد يكون وقعه أيضا «ضربة سياسية» له... ومن هنا لا يستبعد ان يكون احد خيارات الغرب التوجه نحو القضاء على القذافي او تقديمه الى القضاء مثلما يذهب الى ذلك معهد «فورين بوليسي» الأمريكي الذي ذهب الى حد القول بأن نهاية القذافي ستكون بمثل نهاية صدّام حسين... وهذا الخيار تدفع في اتجاهه اليوم بالخصوص لندن التي «ألحّ» وزيرها للخارجية وليام هيغ على ضرورة محاكمة العقيد الليبي.. وعلى العموم فإنه بالرغم من ان المحللين والسياسيين بدأوا يرقبون بشغف ممزوج بالخوف «ليبيا ما بعد القذافي» فإن المستقبل لا يبدو واضحا تصوّره والتنبؤ به.. لأننا اليوم أمام حالة تشبه الى حد بعيد «الصندوق الأسود».. الذي قد لا يتم العثور عليه أصلا ولا حتى تحديد مكانه خاصة في ظل التسريبات المتواترة من حين الى آخر بأن خيار التدخل البري في ليبيا غير مستبعد... فالخشية الكبرى هنا هي ان يتحول مثل هذا التدخل الى وجود غربي في ليبيا قد يمتد الى 40 عاما مثلما جاء على لسان أحد المحللين البريطانيين... بمعنى ان يعطي الغرب لنفسه الحق في «تعويض» جهوده في «حماية» الشعب الليبي بالبقاء في ليبيا نفس الفترة التي قضاها القذافي في الحكم عملا بمبدإ «يوما بيوم، شهرا بشهر، سنة بسنة»... على غرار «بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة»... وحينها نكون أمام «كوميديا سوداء»... لا فقط أمام «صندوق أسود»...