1 من معارفي رجل ناضل في صفوف التجمّع الدّيمقراطي سنين طويلة. سألته ذات مرّة وكانت الانتخابات البرلمانية على الأبواب: «أعجب كيف لم يرشّحوك لهذه الدّورة بعدما عرفوه من إخلاصك واستقامتك، وأعادوا ترشيح صاحبك فلان للمرة الثالثة، وهو من هو في الدسائس، والتزلّف لكل من له فيه مطمع. هل نسيت شكواك من دناءاته، وتذمّر أغلب النّوّاب من مداخلاته التّافهة؟». أجابني: «إنه «جلغة» لا غنى عنها في المجلس. حيوان مدرّب يدفعه المتنفّذون في الحكومة، إمّا نحو وزير منافس لإرباكه، أو نحو معارض لجوج يراد إسكاته. فينبري له صاحبنا فاتحا فمه العريض بخطبة تملؤها العبارات المفخّمة بالمبالغات والشقشقة اللّفظيّة، تتدافع كالرّشّاش بنبرات صوتيّة عالية، تثير الرّعب الانفعالي الذي يفحم المستمع، ويدفعه إلى التّصديق دون اقتناع». 2 في آخر اجتماعين لمجلس النّوّاب ومجلس المستشارين شاهدنا خطبتين من تقديم أشهر «جلغة» في هذا وذاك. أما النّائب فجعل يهدر كفحل الجمال والزّبد يتطاير من جانبي فمه، مطلقا ألفاظا سوقيّة، ركّبها على معان غير مناسبة للموقف، وإنّما قصده منها استثارة المشاعر، وارتداء حماس وطنيّ مستعار، حتى تتغاضى الثورة عن حلّ المجلس وتشريد أعضائه المؤمّلين في ركوب قطارها. وأما المستشار، المشتهر بالفصاحة، فقد متّعنا بسماع «جلغته» تتكلّم عربية أنيقة ذات تواشيح وترانيم وتخييلات لغويّة فيها ذوق وحرارة إلقاء. وبذلك حاول الاستحواذ على العقول بأقاويل مخيّلة لابرهانيّة، اعتمادها كلّه على الإنشاء البلاغيّ الخطابيّ. وقد أظهرت إحدى اللّقطات التلفزيونيّة وجه الوزير الأول وقد اتّسعت عيناه اندهاشا من خطاب بساعة لا يوضّح شيئا، ومن اكتشافه مخلوقات في البرلمان لهم كل هذه المقدرة على إنتاج اللاّشيء. وقد تابع الصحافيّون الحديث دون أن يترسّب في أوراقهم معنى واحد جدير بالنّشر، فتجاهلت صحف الغد الخطبة العصماء، وحتى اسم صاحبها. 3 وبعد حصول الثورة انطلق «جلغات» اليمين واليسار، ممن لازموا الصّمت طويلا، و فتحوا أفواههم بما يشاؤون في ظلّ الأحزاب الجديدة. فهذا أحدهم في هيئة حماية الثورة يفسد هدوء جلساتها، مهدّدا بالمقاطعة إذا لم تستجب لمطالبه التي طفق يمليها، بصوت عال فيه كل آليات الاستنفار اللّغويّ، وبحركات مسرحية فيها كل آليات العنف الرّمزي الذي تمارسه اليدان وعضلات الوجه والشاربان المتهدّلان. وهذا الآخر من تيّار الإسلاميّين أظهره التنقّل المستمرّ بين محطات الإذاعة وشاشات التلفزيون، كالمكلّف من طرف «إخوانه» بحملة نظافة تطهّرهم من آثام جرّمهم بها المجتمع، وتدحض عنهم أقوالا جاهروا بها وألبستهم رداء التّزمّت والتعصّب. فحينا يستثير العواطف باستعمال عبارات تدفع المستمع إلى منطقة لاعقلية من التصديق الساذج، بناء على أقوال ينقصها الدّليل والبرهان. وحينا يستنكر الإرهاب، و يبرّىء جماعته من التحريض عليه. وإذا تعلّق الأمر بالانغلاق والتشدّد أثبت أنه من هواة الفنّ ومناصريه، حتى أنه غنّى قصيدة لشيلّر بلغة ألمانية تعلّمها في شبابه. وحين يذكّره المحاور بمواقفه القديمة المتشدّدة، يستغفر منها، ويقرّ بأنه طوّر نفسه واتّعظ من الأخطاء. وإذا نسبه إلى رفاقه القدامى قال إنه منهم، وليس منهم. فإذا جابهه بنيّتهم الانقلاب على الديمقراطيّة استنكر ذلك، وطالب كلّ الإسلاميين في مشهد تلفزيوني بمراجعة أنفسهم، وقبول حقّ الاختلاف في الفكر والممارسة. فهل للرّجل طبع ثعلبي مبنيّ على تقاسم الأدوار كما يقال عنه، أم هو مؤمن حقّا بما يقول ؟ إن كان صادقا فليلتزم في دروسه وخطبه بمسؤولية الواعظ الأخلاقية، بل والدّينيّة، المبنيّة على التّسليم بحريّة الإنسان في اختياره السلوكيّ والاعتقادي، حسب الآية الكريمة: «وهديناه النّجدين». 4 بعد هذا أحسست وكأنّ لكناية «جلغة» مدلولا بليغا في لهجتنا الدّارجة لا تعوّضه مفردة أخرى. وبفضول بحثت عمّا قد يربطها باللغة العربية الفصحى، فوجدت في القاموس المحيط (ج.3 ص. 108): المجالغة وتعني الضّحك بالأسنان، وتجالغا أي تكافحا بالسيف. وبهذا يتقارب الشرح الأول مع كلمة «جلغة» في معنى انفتاح الفم أفقيّا حتى تظهر كل الأسنان، إما للضّحك (يقال ضحك حتى بدت نواجذه)، أو لتضخيم الكلام وقذفه بصوت جهوريّ. وقد اشتهر أهل الجريد بإتيان هذه الحركة عند إطلاق النّكت أو التّفاحش بالكلام. ومن أقوالهم للزّجر: «ضمّ جلغتك»، وللتّهديد: «ع نكسّرلك جلغتك». وربّما يكون لمعنى العنف علاقة بمدلول المكافحة بالسّيف، وهو الشرح الثاني في القاموس. يا أبناء وطني، انتبهوا إلى كم «جلغة» ستنفتح عليكم في الانتخابات القادمة، تظهر لكم شيئا وتخفي عنكم أشياء. فاستحضروا العقول ولا تغترّوا بمعسول الكلام.