من غير المعقول وبعد حصاد ثورة 14 جانفي أن يتواصل الحديث في بلادنا عن مظاهر للعنف وعن تجاوزات من قبل أعوان الأمن حيال المحتجين والمتظاهرين وعن إيقافات في صفوفهم أو ما شابه ذلك. ما من شكّ في أنّ انفتاح بلادنا على هذا الواقع الجديد وغير المسبوق من الحرية في التعبير والاحتجاج والتظاهر وبمثل هذه الصورة البهيجة المتّجهة للقطع مع الماضي، من المؤكّد أنّ هذا الانفتاح سيترافق ببعض المظاهر السلبيّة، ومن المهمّ في مثل هذه الحالة الانتقاليّة وهذه اللحظة التاريخية أن تسعى كلّ الأطراف إلى تجميع جهودها من أجل ممارسات حضاريّة تقطع مع سلبيات العقود الماضية وتتّجه بإرادة واحدة وموحّدة لمُراكمة بناء جديد يليق بما نالته ثورة 14 جانفي من إشعاع ومنزلة رائدة على المستوى العالمي والإنساني. إنّ التفكير يجب أن يتّجه اليوم إلى عملية البناء الجديدة، والّتي من الواضح أنّها تتطلّب قدرا من الجهد والصبر والمثابرة خاصّة في ظلّ ما يعلمهُ الجميع من تردّي أوضاع البلاد في سائر الميادين والمجالات وعلى امتداد سنوات طويلة. وفي مشروع البناء هذا، مشروع بناء الحريّة والكرامة والعلاقات الجديدة، فإنّ الجميع متساوون مُطالبون بتقديم الإضافة ووضع بصمتهم في لبنات وأسس هذا المسار الجديد. فلا للعنف ولا للظلم ولا لقمع الرأي المُخالف، ونعم للحوار والتواصل واحترام حريّة المواطن في الاحتجاج والتعبير، لا لمُمارسات «بوليس العهد السابق» ولا لعلاقة التطاحن أو التخوين أو التآمر بين المواطن ورجال الأمن. إنّ رجل الأمن، هو في دولة الحرية حامي الوطن والشعب، ولا مغزى لتدخّله في الشأن السياسي أو الاختلاف بين الفرقاء في ساحة التمهيد للمواعيد الانتخابية والحزبيّة المقبلة. إنّ التجاء السلطة القائمة حاليّا، وهي سلطة وقتيّة لتسيير الأعمال، إلى توظيف جهاز الأمن وتأليبه على المتظاهرين والمحتجين والمخالفين، مثلما فعلت عندما التجأت إلى قوّات الأمن إلى قطع الطريق أمام الراغبين في الاعتصام بساحة القصبة، إنّ هذا السلوك أمر خطير وفي غاية الدقّة، إذ قد حان الوقت لكي يتمّ الفصل بين الشأنين الأمني والسياسي والقطع مع فلسفة رديئة امتدّت لسنوات طويلة اختلط فيه الأمن بالسياسة والسياسة بالأمن وأدّت إلى ما أدّت من انزلاقات وتعدّ على الحقوق الأساسيّة للشعب في التعبير والتنظّم والاجتماع. إنّ بعض المتنفذين في السلطة القائمة يخطئون في حقّ الثورة وحق الشهداء والتضحيات التي قدّمها الشعب، عندما يذهبون إلى اعتبار «جهاز الأمن» تحت إمرتهم لتمرير هذا الخيار السياسي أو غيره، أو الوقوف في وجه هذا الخيار المُعارض وقمعه. إنّ بداية الطريق لتونس الحرّة هي القطع الضروري بين الأمن والسياسة والفصل بينهما، فمهمّات الأمن فوق كلّ الاعتبارات السياسيّة أو الحزبيّة أو الفئويّة الضيّقة، إنّها مهمّة وطنيّة نبيلة توفّر المناخ الملائم لكل الناس دون استثناء والوقوف موقف المحايد من الصراعات أو الاختلافات السياسية القائمة، كما أنّ الأمن مطلب يخضعُ إلى واجب وضرورة الاستمراريّة تطلبه كلّ القطاعات وكلّ الميادين، في حين أنّ السياسة متبدلّة ومتغيّرة من يوم إلى آخر بل مرّات من لحظة إلى أخرى.